اقرأ أولا:
أسوأ ما في "النزعة الفردية" أنها لا تزال فكرة براقة تجتذب إليها النفوس، على الرغم مما ظهر من آثارها السيئة، وها نحن نرى مؤلفي كتاب "انتحار الغرب" -الذي صدر قريبًا- يجعلان النزعة الفردية من الأعمدة الستة لحضارة الغرب([1])، ويفخران بذلك ويَعُدانها من "مميزات الحضارة الغربية"، لا سيما وأن كثيرًا من ملامح النزعة الفردية تأصلت وترسخت أثناء الكفاح الغربي للخروج من سيطرة الكنيسة والاستبداد والإقطاع؛ فقد كانت النزعة الفردية أَصْلاً في حركات إصلاحية دينية -كاللوثرية التي استهدفت إعتاق الناس من سلطة الكهنة الروحية- وحركات إصلاحية سياسية –كآراء جون لوك وروسو وكانت- وحركات إصلاحية اقتصادية بلغت ذروة نجاحها في "الرأسمالية"([2]).
لكن هذا الجانب المضيء من تلك النزعة يُخفي وراءه الجانب الأكثر سوءًا وظلامًا، وسنكتفي بضرب ثلاثة أمثلة فحسب عما جناه الغرب، ومن ورائه من تبعه من البلدان والأنحاء من شرور، فبحسب شيوع هذه النزعة في مجتمع بحسب ما أصابه من شرها.
أولاً: تمزيق روابط المجتمع
نشر مايكل دو مونتين مقالاً (1580م) يقول فيه: "أعظم شيء على الأرض هو أن تعرف كيف تنتمي إلى نفسك، فكل إنسان ينظر أمامه، ولكنني أنظر في داخل نفسي، إذ ليس لدي اهتمام بغير اهتمامات نفسي، وأنا أتأمل نفسي باستمرار، وأنا أضبط نفسي، وأنا أتذوق نفسي... نحن مدينون ببعض الأشياء للمجتمع، ولكن القسم الأكبر لأنفسنا". ثم أتى ديكارت فقال قولاً عظيمًا: "الإرادة الحرة هي أنبل شيء نستطيع أن نملكه، وذلك لأنها تجعلنا في أسلوب معين مساوين لله وتستثنينا من كوننا رعاياه"([3]). وسار خط الفكر الغربي على استقامته حتى بلغ ذروة التطرف لدى نيتشه الذي أعلن "لقد ماتت جميع الآلهة، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان (الإنسان الأعلى)"([4]).
وحيث نسي القومُ اللهَ فإنه –جل وعلا- أنساهم أنفسهم، فلقد سار الغرب في ترسيخ هذه النزعة الفردية؛ حتى لم يعد ممكنًا كبح هذا الجماح، حتى انتهت العلاقات "التراحمية" في المجتمع لتحل محلها العلاقات "التعاقدية"؛ حيث لا عاطفة ولا تراحم ولا قيم عليا؛ بل مجرد المنفعة([5])، ولئن كان قطاع من مفكري الغرب وفلاسفته ينظرون للإنسانية؛ فإن واقع الغرب وساسته يظهرون كأبناء مخلصين لنيتشه المُمَجِّد للقوة والمُحْتَقِر للضعفاء وعدو الشفقة([6])، والذي "يرى التعاطف ضعفًا يجب مغالبته"([7]).
وفي حمأة الجنون الغربي بالحرية الفردية لم يعد ممكنًا حتى الاستماع لأصوات عقلائهم التي تقول مثلا: "إن رأس المال الاجتماعي يُدَمَّر حين يصير المجتمع أكثر فردية، وحين نصير نحن غير مرتبطين مع الأسرة والأصدقاء والجيران والنوادي والكنائس والروابط والجماعات المجتمعية، وتنهار الثقة، وهي مكون مهم للصحة النفسية والنجاح الاقتصادي"([8]).
إن تمزق الروابط الاجتماعية اجتاح كل العلاقات حتى أوثقها؛ وهي العلاقات الأسرية؛ فقد بلغت نسبة العزوف عن الزواج في أمريكا 85%، ورُصِد تضاعف معدلات العزوف هذا بين عامي (1970 – 2002م) فبلغ عند الرجال 336% و196% عند النساء، وكذلك تتضاعف نسب الهروب والطلاق بين المتزوجين -والتي تعبر عن نزعة فردية أنانية تناقض كل قيم تحمل المسئولية- فزادت من 3 مليون إلى 10 ملايين بين النساء، ومن 393 ألف إلى 2.25 مليونًا بين الرجال في الفترة ذاتها (1970 – 2002م)، بل صار أكثر من نصف مواليد السويد (54%) من أولاد الزنا، ونحو 40% في فرنسا، و38% في بريطانيا، وتغولت نسب الطلاق حتى بلغت معدلات مخيفة في بلجيكا (69%) والسويد (60%) والنمسا (59%) وألمانيا (51%) وبريطانيا (51%) وأمريكا (48%) وفرنسا (39%)، بل لقد شمل التخريب تعريف الزواج نفسه لم يعد يتحدث عن رجل وامرأة وأطفال مرتبطين بزواج؛ بل صار –بحسب مؤلفي كتاب: الحياة الأمريكية- يتحدث عن "أناس يعيشون مع بعضهم ويحبون بعضهم"، وأبرز تطبيق عملي هو إصدار القوانين المبيحة للزواج المثلي في أوروبا([9]).
ومما هو معروف أن الغرب ما يزال في سعيه الحثيث لزرع كل هذه المشكلات في بلادنا، وتكفي في هذا نظرة لتوصيات مؤتمرات السكان وحقوق المرأة، وبرامج المنظمات الحقوقية الممولة غربيًّا والعاملة في العالم الإسلامي، تكفي نظرة واحدة في كل هذا ليُكتشف طريقهم في السعي والإفساد.
ثانيًا: "الفرد- الإله".. أفكار استعبادية
أثناء إعدادي هذا البحث، وعن غير تقدير، أراد أحد الأصدقاء أن يكرمني فذهب بي إلى عشاء في مطعم أمريكي بأحد أحياء القاهرة الراقية، مازحني أول الأمر بأنه تركي، ولكن طريقة الطهي أمريكية، لم أفهم المزحة، واعتقدت أنه تركي فعلاً، ولم أكتشف أنه أمريكي إلا قرب نهاية الأكل.
أهم ما في الأمر أن "النموذج" الغربي كان حاضرًا بقوة، كأنك صرت في أمريكا بالفعل، كل شيء أمريكي، المأكولات باللغة الإنجليزية، وهكذا يحفظها الزبائن ويطلبونها، يطلبون كوب الماء ومناديل الطعام والمياه الغازية وكل شيء بالإنجليزية، الزبون كائن مقدس منذ دخوله حتى خروجه، هذه الحالة تتلبس الزائر كما تتلبس العاملين، الخطأ البسيط جدًّا يحمله على الاستنكار بكل قوة وإهانة، ويحمل العاملين على الاعتذار من أولهم حتى مدير الوردية، هنا يختفي عالم العرب بكل ما فيه من إنسانية وتراحمية وتواصل طبيعي؛ ليسود النموذج الرأسمالي المتوحش، الذي يجعل مالك المال إلهًا مُطاعًا.
صديقي هذا متدين ملتزم؛ لكنه يلبس هذا "النموذج الحضاري" دون أن يدري، لذلك صَدَمَتْه تعليقاتي أول الأمر؛ لكنه لم يلبث أن اقتنع وغَيَّر من سلوكياته، ووعدني بألا يعود إليها مجدّدًا، وحرصنا طوال فترة التواجد على إشاعة الجو الإنساني التراحمي مع العاملين في محاولة –ولو ضعيفة- للتأكيد على مقاومة هذا النموذج، والاحتفاظ بقيمنا النابعة من ديننا، والسائدة في حياتنا خارج هذه المطاعم، التي تمثل المعسكرات الحقيقة للأعداء، بل هي أشد فتكًا من معسكرات السلاح والقنابل؛ لأن المُستعمَرين يدخلونها عن رضا وطيب خاطر ويتقبلونها، وتتسرب إليهم أفكارها ونظمها وهم لا يشعرون، فما هي إلا مرات معدودة حتى يتحول إلى غربي الهوى والمزاج والميول والعادات.
إن النمط الغربي يتأسس على "مفهوم لا رحمة فيه للعلاقات الإنسانية، قائم على فردانية لا كابح لها، لا تُوَلِّد إلا مجتمعات تزاحم على الأسواق ومواجهات وعنف حيت تَسْتَرقّ بعض الوحدات الاقتصادية أو السياسية، الوحدات الأضعف أو تبتلعها"([10]).
يمكن رصد الكثير من الآثار لسيادة هذا "النموذج الغربي" في بلادنا العربية والإسلامية، لكن ما يخصنا في سياق هذا البحث هو ذلك الأثر الخطير: اختفاء التواصل الإنساني لحساب النموذج المادي، الذي يستتبع تعاظم الروح الفردية على حساب الروح الجماعية، ومن ثم انهيار شعائر مثل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ذلك أن العلاقة بينك وبين الآخر علاقة مادية متمثِّلة في مصالح مشتركة خاضعة لبنود أو لوائح أو قوانين صارمة، ولا يجوز التدخل بأكثر من هذا القدر، وإلا فهو اعتداء على الحياة الخاصة للطرف الآخر.
وهذه العلاقة تظل في حالة اتزان ونفع متبادل ما دامت القوى متكافئة، أو ما دامت السلطة قوية وقادرة على إنفاذ القانون بصرامة، أما إذا اختلت هذه الحالة المتزنة فسيبرز للسطح تلك الفكرة الجوهرية؛ وهي "المصلحة المادية"؛ وهي التي تدفع الأقوى لسحق الأضعف بكل عنف ممكن، ما دام يحقق بذلك أقصى منفعة مادية ممكنة.
إن هذه الظاهرة هي العودة الحقيقية للأفكار العميقة، التي أنتجت السياق الغربي، وهي فكرة "الإقطاع" القديم، حيث يسود نمط الخادم – السيد، وللطرف الأقوى حق "استغلال" الطرف الأضعف بما يحقق أقصى منفعة.
ثالثًا: نسب الجريمة بين المدن والقرى
وقد أثبتت آخر دراسة للأمم المتحدة حقيقة ازدياد "عدد الأشخاص الذين يعانون من الفقر ونقص التغذية في المناطق الحضرية بسرعة تفوق ما تشهده المناطق الريفية"، وقررت حقيقة أن "الجوع نتيجة واضحة للفشل في الحماية الاجتماعية"، حتى إن المأساة لتبلغ حد أن "يساهم نقص التغذية في أكثر من ثلث وفيات الأطفال دون سن الخامسة في العالم"([11]).
وعلى غرار إحصائيات الفقر تأتي إحصائيات الأمن، ولا أقرب على ذلك من مشهد الثورات في بلاد الربيع العربي؛ حيث ينتشر الانفلات الأمني في أحيان كثيرة، فتحظى المدن والمناطق الحضرية بنصيب الأسد من حالات الجرائم والتعدي على الممتلكات؛ وذلك في حين تظل المناطق القروية والبدوية تنعم بعيش هادئ؛ لما في الترابط الاجتماعي من عواصم تمنع المجرمين طوعًا (خوف العار والفضيحة)، أو كرهًا (حيث تكون المواجهة مع عوائل وعشائر لا مع أفراد) من الإفساد في الأرض.
وعلى غرار الفقر والأمن تأتي معدلات الأخلاق، فلا خلاف على أن أخلاق القرى والبوادي خير منها في المدن والحواضر، وعلى سبيل المثال فقد أثبتت إحصائيات الأمم المتحدة أن انتشار مرض الإيدز في المناطق الحضرية أعلى منه في المناطق الريفية، وكان السبب الرئيسي هو ارتكاب الفاحشة، حتى بلغ عدد المصابين به أكثر من مليونين من الشباب بين العاشرة والتاسعة عشر عامًا([12]).
إن
مناعة المجتمع تتشكل بترابطه وتماسكه، وكلما كانت النزعة الفردية سائدة كانت
الأخلاق أدنى والجرائم أعلى، بل كلما سادت النزعة الفردية ترسخ الاستبداد والطغيان،
فالسلطة التي تحكم الناس أفرادًا تجترئ على ما لا يمكن لها أن تجترئ عليه لو أنها
تحكم الناس عُصَبًا وجماعات وعشائر، بل لعل سيادة النزعة الفردية المؤدية إلى
انحلال الأخلاق وانتشار الفسق ومن ثم ترسخ الفرعونية إنما هي تفسير قول الله تعالى
عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا
فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق