ذكرنا في المقال الماضي أن الإسلام يبني نظامه
بتقوية الأمة بعيدا عن السلطة، بحيث تكون هذه التقوية في ذاتها عاملا رادعا
لاستبداد السلطة وعاملا فاعلا في نهضة الأمة وإن ضعفت السلطة.
وهنا يتجلى فارق ضخم في المنهج الإسلامي عن غيره من
المناهج، خصوصا عن الطريقة الغربية ونمط الدولة المركزية الحديثة التي تنفر من
التجمعات والتكتلات ويقوم بناؤها على أساس المواطن الفرد الذي يسهل قهره طالما كان
فردا.
أما الإسلام فقد سعى لتمتين روابط الأمة وتقويتها، وأصل
هذا أن كل استبداد أو ظلم أو فساد لا يبدأ دفعة واحدة، بل إن المنهج الفرعوني في ظلم
الناس هو تفريقهم طوائف وأحزابًا، ثم يبدأ بالعدوان على طائفة، وهو يستجلب دعم الآخرين أو
على الأقل سكوتهم، فإذا استقر له ظلم الطائفة انتقل منها إلى غيرها؛ حتى يصير واحدًا لا رأس معه،
تحتمي به الطوائف من بعضها، وتتقرب إليه جميعها، وهو يظلمهم جميعًا: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا
فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، وحين
ينفك الترابط بين الناس لا يبالي بعضهم بما يفعله غيرهم، ولا بما ينزل بغيرهم، فتضيع
بينهم المروءة، حتى لو وصل الحال بالفرعون إلى أن {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4]، فليس منهم أحد يستشعر المسئولية، أو يرى أن لديه التزامًا
نحو غيره.
لقد جاء الإسلام بما يخضد شوكة الفرعون ويقوي شوكة الأمة،
جاء بتمتين الروابط والعلائق والوشائج بين الناس، وذلك عبر مستويات ثلاثة: رابطة الدين،
رابطة الرحم، رابطة الجوار أو الجغرافيا، وجميعها روابط متساندة متكاتفة غير متناقضة،
وهي بمجموعها تحقق الانسجام النفسي للمسلم، فرابطة (الدين) تحقق انسجامه العقلي والروحي
والفطري، ورابطة الرحم والدم تحقق انسجامه الفطري، ورابطة الجوار تحقق انسجامه العملي
الواقعي.
وإذا تحقق في واقع المسلمين تقوية هذه الروابط والعلائق استقام
أمر مجتمعاتهم، فتكون محصنة من ظلم واستبداد الحكام، كما تكون محصنة من فساد الشهوات
والشبهات؛ إذ تقوى العادات الحاكمة وترى الكل يستشعر المسئولية عن
أخيه وصاحبه؛ فيجتهد في النصح له ورده عن الباطل بالرفق أو بالشدة، وحينئذٍ
تختفي المعاصي فلا تُفعل إلا سرًّا وعلى استحياء، فإذا استعلنت رماها الناس عن قوس
واحدة.
في هذه السطور نلقي الضوء على رابطة الدين وكيف كانت
أهمّ وأقوى رابطة في تماسك المجتمع ومقاومة استبداده، وسنفهم عندها كيف كان سعي
المحتلين والمستبدين حثيثا لتبديل هذه الرابطة التي تمثل هوية الأمة وإنشاء هويات
وروابط أخرى كالقومية والقطرية وغيرها.
(1)
رابطة الدين
وهي الرابطة السامية التي تحرر الإنسان من العنصرية والاستعلاء، والفخر بما لا يملك وما لم
يختر كاللون والوطن والعشيرة، وترده إلى أصل إنسانيته، التي يستوي فيها مع الناس
جميعًا أبيضهم وأحمرهم وأسودهم، ثم ترفعه إلى الفخر بما اختاره وآمن به وهو الدين.
وهي الرابطة الملهمة، التي تمتد في أعماق التاريخ
حتى آدم عليه السلام وتشتمل صفوة البشر من الأنبياء والمرسلين والعباد والمجاهدين والزاهدين،
كما تتسع حتى تشمل المشارق والمغارب فيندرج فيها كل بلد يذكر فيها اسم الله وكل إنسان
يشهد أن لا إله إلا الله.
لقد جاء الإسلام برابطة الدين ليجعلها فوق كل رابطة أخرى، لا لتكون عنصرية جديدة؛ بل لتكون ميزان الحق، فالمسلم
يوالي ويعادي بحسب ما في المرء من حق وخير؛ ولهذا ينبغي أن تكون ولاية
الحق أقوى الروابط لأن الحق دين، ولأنه لا يعلو على الحق رابطة عصبية أخرى، ومن هنا
نفهم كيف ذَكَرَ القرآن الكريم أخوَّةَ الدين في موقف الخصام والتنازع والقتال؛ فقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10].
إن أخوة الإيمان هي الرابطة القائمة بين أهل الحق، وإن اجتماعهم
يعني أنه اجتماع على الحق، فإن تفرقوا وتنازعوا فهو إنما لأجل انحرافهم عن الحق،
"فقد قال الله لهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:
103]. فلما نهاهم عن التفرق مطلقًا دَلَّ ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو
اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم، وبَيَّنَ أنه أَلَّف بين
قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانًا، كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62، 63] فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور
كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم"([1]).
ولأنها رابطة ربانية مبنية على الحق فينبغي أن تكون أسمى
الروابط وأقواها وأمتنها، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ
صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، وقال رسول الله r: "إن
المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يشدّ بعضه بعضا"([2]). وذكر له النبي r تشبيها آخر: الجسد الواحد
فقال: "مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم
مَثَل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"([3]).
ولهذا ينبغي ألا يكون بين المؤمنين أخلاقُ مَنْ جَمَعَتْهم
رابطة جاهلية؛ قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2] قال رسول الله r: "لا
تَحاسَدوا، ولا تَنَاجَشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِع بعضكم على بيع
بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره.
التقوى هاهنا" ويشير إلى صدره ثلاث مرات "بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر
أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وفي رواية البخاري: "ولا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر
أخاه فوق ثلاثة أيام"([4]). وأوضح r أنه
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"([5]).
وينتصب نموذج الإخاء بين المهاجرين والأنصار في المدينة؛ كمثال فذٍّ على ما يمكن أن
تبلغه الأخوة الإيمانية، فقد صار أخو الإسلام مقدمًا على أخي النسب، وظهرت في هذا الإخاء
عجائب لا سوابق أو لواحق لها؛ فلقد استقبل الأنصار إخوانهم
بكل ترحاب، فأحبوهم وأنفقوا عليهم من أموالهم وإن كانوا في حاجة، وآثروهم على أنفسهم،
واقتسموا معهم أملاكهم، وتسابقوا على استضافتهم {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ
فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] حتى "ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة"([6])، ومثلما ظهرت عجائب الأنصار
في الإيثار ظهرت عجائب المهاجرين في النبل والتعفف، وبادلهم المهاجرون الحب والاعتراف
بالفضل حتى كانت خشيتهم أن يذهب أجرهم في الجهاد والتضحية أمام عظمة الأنصار، وقالوا للنبي r: "ما رأينا مثل قوم قدمنا
عليهم أحسن مواساة في قليل، وأحسن بذلاً في كثير، لقد
كفونا المئونة، حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله"([7]).
وكان الإخاء
بين المهاجرين والأنصار هو النموذج الأول والأمثل في إنشاء رابطة الدين، وتقديمها على غيرها من العلائق والروابط، ونحن لا
نستطيع أن نفهم جوهر هذا الإخاء وآثاره الهائلة على حقيقتها؛ إلا حين نقارن اليوم مشكلات اللاجئين في العالم، وكيف
يمثلون مأساة إنسانية دائمة، ويزداد الفهم -ومعه الحسرة والأسى- حين نرى أوضاع اللاجئين
المسلمين اليوم؛ وكيف لا يجدون من إخوانهم المسلمين سندًا ولا نصرة؛ بل إن قضية اللاجئين الفلسطينيين تحت الحكومات
"العربية" تعد وحدها مأساة إنسانية بالغة المرارة، حتى صار الدم الفلسطيني
شركة بين بني صهيون وبين أذيالهم من أهل العروبة!!
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق