بعض الملاحظات التي أثارها مقالي السابق انصبت على أن النظام الديمقراطي في تركيا
لم يكن سوى "صورة" نظام أو "هيكل" نظام خالٍ من المعنى
والروح، وهي ملاحظة صادقة ودقيقة بغير شك. كما أنها ملاحظة قيِّمة حملتنا على أن
نجعل لها هذا المقال.
***
يرى هيجل في فلسفته الجدلية أن الفكرة تلد نقيضتها، ثم
تتصارع الفكرة ونقيضتها حتى يتولد من صراعهما فكرة ثالثة، بعد فترة تلد هذه
الثالثة نقيضتها وتتصارع معها.. وهكذا!
لقد كنا في العالم العربي محرومون حتى من صورة وهيئة
وهيكل النظام الديمقراطي، ليس لدينا سوى طلاءات شكلية بالية ومكشوفة ومفضوحة:
انتخابات أو استفتاءات يفوز فيها الرئيس الأوحد والذي يتعفن في الحكم لربع قرن أو
ثلاثة عقود أو أربعة حتى يأتيه الأجل أو انقلاب أو احتلال. ومن ثمَّ كان الشوق
عظيما للديمقراطية التي يتغير فيها الرؤساء وتتبدل فيها مواقع الأحزاب وتختلف فيها
نسبة الفوز في البرلمانات عند كل انتخابات!
ما كان للشعوب العربية أن تكتشف عيوب الديمقراطية إذ هي
ترسخ في وحل الاستبداد المطلق، إنما يتأهل لاكتشاف عيوبها من كانت تجري عليه
أحكامها، تماما مثلما يتوق العرب لرؤية الدولة القوية ذات المؤسسات المحترفة التي
تحتكر القوة وتنظم المجتمع، ولن يتأهل لاكتشاف عيوب الدولة الحديثة وأنظمتها إلا
من عاش فيها، ولهذا فإن تيار نقد الدولة الحديثة إنما يتفجر من الغرب حيث هناك
تجري أحكامها فيمكن اكتشاف عيوبها.
إن الديمقراطية في جوهرها وغايتها شوق إنساني عام، إذ
قيمة أن يختار الناس حاكمهم وأن يراقبوه وأن يعزلوه هي قيمة إنسانية قديمة دارت
حولها معظم الفلسفات الإنسانية شرقا وغربا، بينما تطبيق هذا المفهوم واستحداث قيمه
الجزئية وآليات تنفيذه هو تطبيق غربي في العصور الحديثة، وهو متأثر ومصبوغ بصبغته
القيمية وأفكاره الفلسفية الأخرى.
إن الديمقراطية كإجراءات وآليات محتاجة دائما إلى محتوى
قيمي وفكري وثقافي، ولهذا فإنها آلت في الغرب إلى أن تكون في خدمة الطبقة
الرأسمالية الغنية (ويراجع في هذا كتاب جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال
شراءها) كما أنها في عالمنا الإسلامي تؤول دائما إلى الأحزاب والشخصيات المناهضة
للغرب (ويراجع في هذا كتاب صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات). إذ ما زال عالمنا
العربي لم يتعلمن ولم يتحدثن –من الحداثة- إلى الحد الذي يجعله خاضعا تماما لتحكم
الطبقة الرأسمالية. وهذا ما يجعل الديمقراطية غير مسموح بها على الحقيقة في
بلادنا، فإن أفلتت تجربة أو أخرى جاءت الانقلابات العسكرية كما في باكستان وتركيا
والجزائر ومصر، ولم يفلت من هذه المعادلة سوى غزة التي امتلك فيها الإسلاميون قوة
عسكرية تصدت لمحاولات الانقلاب.
***
لم أكن أعرف تلك النزعة الفكرية الفلسفية عند أردوغان
قبل قراءة نص خطابه في ختام ندوة "الديمقراطية"، والتي أقامها في اسطنبول
في أعقاب انقلاب فبراير 1997 على حكومة حزب الرفاه بزعامة أربكان، وكان أردوغان
وقتها عضوا في الحزب ويتولى رئاسة بلدية اسطنبول الكبرى.
في هذا الخطاب شرح أردوغان معنى احتياج الديمقراطية
لمحتوى فكري وقيمي، وأن هذا المحتوى إن لم يكن نابعا من الشعب فسيكون مستوردا من
الخارج، وساعتها لن تكون الديمقراطية إلا وسيلة لتحقيق مصالح النخبة، وساعتها
سيجيزون لأنفسهم الانقلاب عليها إذا اخترقت مصالحهم.
استمرت الندوة ليومين من النقاش الفكري المعمق حول
الديمقراطية، وجاءت كلمة أردوغان في ختامها فوضعته في مصاف المفكرين لا السياسيين..
أنقل منها هذه الفقرة:
"إن أي مجتمع من المجتمعات حين يقيم ويطور
ديمقراطية تستهدف المثل العالمية يجب أن يضيف أحكام قِيَمه ومعتقداته وعاداته
وتقاليده باعتبارها خميرة الثقافة السياسية لهذه التجربة الديمقراطية.
الديمقراطية –بهذه الصورة- يمكن لها أن تخرج من دائرة
المناقشات المجردة وتتحول إلى نظام قابل للتطبيق. وبهذه الصورة فقط يمكن للمجتمع
أن يزداد ثراءً، بل وتبتعد الديمقراطية عن كونها (إشكالية نخبوية).
بهذا يمكن للمجتمع أن يعمق وعيه بالديمقراطية، ويحولها
لإحدى واجبات الحياة اليومية، ويغذي بها قناعاته الثقافية. ويكون لهذه الخلفية
الثقافية إسهاماتها الكبيرة للوصول بالديمقراطية إلى مصافّ العالمية.
هناك اتصال مباشر بين هذا الموضوع وبين مفهوم سيادة
القانون الذي يحتاج إليه أي مجتمع من المجتمعات بقدر احتياجه للخبز والماء. ولو لم
يُعمّق الشعب فكرة الديمقراطية أو تم الحكم في هذه الديمقراطية على أنها برنامج
خاص بالنخبة التي تدير البلاد؛ ففي هذه الحالة ستقوم النخبة الحاكمة بتضييق حدود
الديمقراطية وتفسرها بالمصلحة العامة العليا للوطن، وهو تفسير يستأثرون هم وحدهم
بالتعامل معه.
في هذه الحالة تخرج الدولة عن كونها دولة قانون وتصبح
عبارة عن قانون الدولة وتظل قابعة في مرحلة الشتات والتيه عن جادة الديمقراطية
الحقيقية.
ومن أجل إمكانية تحقيق سيادة القانون بالمعنى الحقيقي
يجب أن يتحول الدستور من كونه إطارا يُملي فيه النخبة الحاكمة آراءهم على الشعب
إلى إطار من نتاج الشعب، ويملي فيه هذا الشعب على الدولة ما يرغب فيه. والطريقة
الوحيدة لإيجاد دستور متفق عليه أن يكون هذا الدستور هو اختصار للقانون.
ولو لم يكن الدستور من نتاج المجتمع، ولو لم يكن في
الإطار الذي يُملي فيه هذا المجتمع على الدولة ما يرغب فيه، فستفقد الديمقراطية كل
جاذبيتها، وتكون قد اختزلت في الانتخابات فحسب.
وفي هذه الحالة لن تكون هناك أي آلية تمنع أن يتم إبعاد
أي حكومة جاءت بالطرق الشرعية عن وظيفتها بشكل ديمقراطي ووفق رغبة الناخبين الذين
يمثلون إرادة الشعب. وإن حدث هذا، فإن المجتمع سوف يفقد كل إمكاناته في ما يتعلق
بحقه في الحصول على الحرية والعدالة.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه الأجواء تهيئ لمن لديهم شغف
الحصول على السلطة بانتهاج طرق غير ديمقراطية للوصول إليها. ومما لا شك فيه أن ذلك
أمرٌّ غير مرغوب، وله تأثيرات سلبية على المجتمع بأسره.
وبذلك، فلو أن تشكيل الدستور كان نتيجة مناقشات حرة داخل
المجتمع، وكان نتيجة توافقية لهذه المناقشات، فإن القانون سيطبق في إطار
الديمقراطية وسيقوم في الوقت ذاته بحمايتها.
وبهذا، فإن تغير الحكومة من خلال الانتخابات من دون
استخدام العنف وقبول الجميع لنتائج الانتخابات من دون أي شروط أو قيود يُعدّ واجبا
أخلاقيا لا غنى عنه.
إضافة إلى ذلك، فإنه لن تكون هناك أي مشقة ملقاة على
الشعب في الانصياع لهذا الواجب الأخلاقي. فحين تتغير الحكومة من خلال الانتخابات،
فإن الحزب الذي يأتي إلى السلطة، أيا كانت الأصوات الحاصل عليها، فلن يتمكن من
المساس بالحقوق والحريات الأساسية"[1].
***
لقد كان أردوغان منتبها إلى أن النظام
الديمقراطي في تركيا هو صورة نظام أو هيكل نظام، غايته الحقيقية خدمة مصالح الطبقة
النخبوية العلمانية فحسب، وقد كرر إدانة هذا الوضع في مواقف مختلفة، منها في خطاب
له ألقاه بعد صدور الحكم عليه بالسجن عشرة أشهر بعد خطبته الشهيرة التي استشهد
فيها بأبيات شعر إسلامية، صرح فيه بأنه لا معنى للديمقراطية إذا كان القضاء
مُسَيَّسًا:
"إن الديمقراطية في وطننا تُختزل وباستمرار في صورة
الانتخابات. والحقيقة أن الديمقراطية ليست فقط مجرد انتخابات، وإنما تعني أيضا
استقلالية القاضي والقضاء. ولو تم المساس بهاتين الحريتين، فستصبح الديمقراطية
نظاما ديكتاتوريا متسترا خلف مظهر ديمقراطي"[2].
بل لقد استمر أردوغان يؤكد هذه الفكرة وتوابعها حتى بعد
أن تولى السلطة، وقد رجعت إلى كتاب "مقتطفات من خطب رجب طيب أردوغان"
فوجدتُ هذا الأمر بمثابة الثابت في تفكيره، يكرره في أماكن وأزمان ومناسبات
مختلفة، سواء أكان خطابا جماهيريا أم نخبويا، سواء أكان عند انتخابات أو في أوقات
استقرار.
§
ففي خطاب له بأنطاليا 16/5/2003: "الديمقراطية ليست
موجودة لخدمة السياسي، بل السياسي هو الخادم للديمقراطية"[3].
§
وفي خطا بديار بكر 18/7/2003 "الدولة يجب عليها أن
تكون خادمة لا محالة، لذلك نحن مقررون ومصممون على أن نطهر ديمقراطيتنا من
العيوب"[4].
§
وفي خطاب أمام مجلس الشورى للإدارات المحلية 6/10/2003:
"نحن نهدف لإعادة تنظيم البنية الإدارية من جديد وفق المعايير العالمية
الديمقراطية. تلك البنية المتعبة البالية، المغلقة عن المجتمع والتي تتجاهل حقوق
الإنسان"[5].
§
وفي خطاب أمام الاجتماع الاستشاري الثالث 27/9/2004
"إن طابعنا الديمقراطي هو دليل على أخذنا المجتمع مركزا لسياستنا"[6].
§
وفي خطاب بأزمير 2/2/2007 "إن عددا من المسؤولين
الحكوميين الذين يحاولون تشكيل عصابات عن طريق مخالفة القانون من أجل قِيَم
يعتبرونها مقدسة. هؤلاء بحد ذاتهم هم أركان الدولة العميقة ضمن الدولة
الحقيقية"[7].
§
وفي خطاب أمام الاجتماع الاستشاري الحادي عشر 25/11/2007
"عندما نقول ديمقراطية نعني بها سيادة إرادة الشعب من دون قيد أو شرط"[8].
§
وفي خطاب لدى
اجتماع الكتلة البرلمانية 29/1/2009 "كلما نضجت الديمقراطية في تركيا، وكلما
اقتربت الدولة من الشعب، وغادرت القوالب الصلبة بنيتنا. سيُرى حجم المشاكل التي
ضخّمناها في أعيننا لسنوات طويلة، وسنكتشف كم كانت مشاكل صغيرة"[9].
§
وفي خطاب بالاجتماع
الاستشاري 21/11/2009 "السياسة هي فن الإحساس بشعور الأمة، وهي رؤية ما تراه
الأمة وسماع ما تسمعه الأمة"[10].
نشر في تركيا بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق