أمضى
ول ديورانت أكثر من أربعين سنة في تأليف موسوعته الفريدة "قصة الحضارة" والتي
تتبع فيها تاريخ الحضارة منذ نشأتها وحتى العصر الحديث، وقد طال عمر ول ديورانت حتى
قارب المائة عام (ستة وتسعين عاما: 1885 – 1981م)، وخرجت موسوعته لتكون من أكثر الكتب
إفادة وتوسعا، وقد كساها قلم المؤلف أسلوبا جذابا رائقا.
وُلد
ول ديورانت
(Will Durant) في نورث آدامز من ولاية ماساتشوستس، وتعلم في مدارس كاثوليكية،
ودرس في كلية القديس بطرس (اليسوعية) وفي جامعة كولومبيا، ثم عمل بالصحافة
والتدريس، وحصل على الدكتوراة في الفلسفة (1917م)، ومن أشهر كتبه –بخلاف الموسوعة-
كتابه المبسط في تاريخ الفلسفة "قصة الفلسفة"، وباقي كتبه لم تشتهر في
الأوساط العربية رغم ترجمتها والحصول عليها لم يعد يسيرا مثل: "عظات
التاريخ"، "أبطال من التاريخ"، وبعض كتبه لم تترجم بعد!
تحدث
ول ديورانت عن الحضارة الإسلامية في الجزء الثالث عشر من موسوعته "قصة
الحضارة" من طبعتها العربية التي أصدرتها دار الجيل في بيروت، وصدرت منها
نسخة ضمن مشروع مكتبة الأسرة، وقسمها إلى سبعة أبواب:
تحدث
في الباب الأول عن محمد صلى الله عليه وسلم، فشرح حال الجزيرة العربية قبل مولده، ثم
تتبع سيرته باختصار منذ بداية بعثته مرورا بالهجرة والنصر وحتى الرفيق الأعلى، ثم تحدث
في الباب الثاني عن القرآن وما يحويه من عقائد وأخلاق وسياسة وما إلى ذلك، ثم تتبع
في الباب الثالث الفتوحات الإسلامية شرقا وغربا وشمالا، وعرض بإيجاز لدولة الأمويين
والعباسيين منذ النشأة مرورا بالذروة وحتى الاضمحلال والانهيار!
ثم أفرد
الباب الرابع للحديث عن الحضارة الإسلامية، وأحوال البلدان الإسلامية الاقتصادية والروحية
والاجتماعية والسياسية، وتعرض لبعض الحواضر الإسلامية واصفا ما كانت عليه من النبوغ
والازدهار والثقافة والحضارة، وفي الباب الخامس دخل إلى أعماق المشهد الحضاري الإسلامي
فتحدث عن التعليم والطب والعلوم والفلسفة والتصوف والأدب والفنون.
ثم خصص
فصلا كاملا للحديث عن الإسلام في الغرب، فتعرض لمسيرة الإسلام التي أثرت في الحضارة
الغربية منذ فتح الشمال الإفريقي، وتوقف بشكل لافت عند الحضارة الأندلسية التي كانت
صلة الشرق بالغرب وصلة التاريخ بالحاضر، وكذلك عند الحضارة الإسلامية في صقلية التي
عاش المسلمون فيها قرنين من الزمان وكانا هما القرنان الذيْن كان لصقلية فيهما وجود
على الساحة الحضارية عبر كل تاريخها.
وختم
أبوابه بباب عن عظمة المسلمين واضمحلالهم، عرض فيه لبعض أعلامهم الكبار من الفلاسفة
والمفكرين، وتعرض فيه لغزو المغول للعالم الإسلامي، وتوقف مستعرضا تأثير الإسلام في
العالم المسيحي!
ثم
نجد في تاريخه آثارا متناثرة أخرى للحضارة الإسلامية، أبرزها حين استعرض
"انتقال المعارف" في مطلع عصر النهضة الأوروبية، فتحدث عن الكتب
والمترجمين وما نقلوه عن الحضارة الإسلامية، وما أنشأوه من المدارس والمعاهد
العلمية.
وديورانت
–ككثير من المستشرقين- لا يجعل الدولة العثمانية جزءا من الحضارة الإسلامية، وذلك
أن النزعة القومية التي سادت كتابة التاريخ في أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر
القرن العشرين جعلت الحضارة الإسلامية مرادفة للعرب، ومن ثم فالأتراك –وإن كانوا مسلمين-
إلا أنهم سياق حضاري آخر منفصل! ولقد استعرض ول ديورانت تاريخ الدولة العثمانية
وآثارها في أوروبا في الأجزاء الثالث والعشرين والسادس والعشرين والثلاثين والحادي
والأربعين. إلا أنه في هذا الاستعراض للتاريخ العثماني كان أقل إنصافا، وذلك يعود
إلى أن المصادر التي اعتمد عليها في ذلك الوقت كانت مشبعة بروح العداء للعثمانيين
إذ أن الدراسات الاستشراقية الأنضج والأفضل تحقيقا وإنصافا لم تكن قد ظهرت وانتشرت
بعد. فكانت الصورة المعهودة للعثمانيين هي صورة البرابرة الأجلاف الغلاظ ذوي
الطباع القاسية والقلوب الخالية من الرحمة! ولا يعني هذا أنه خلا من الإنصاف كلية،
ولكن نقول بأن دراسة الحضارة الإسلامية في العصور العربية كانت أنضج وأحسن حالا من
دراسة العصر العثماني.
كتاب
ول ديورانت ككل كتب الغربيين والمستشرقين، فيه بعض أخطاء في التحليل والتفسير ناتج
معظمها عن اختلاف الروح وقصور الفهم وغير ذلك مما يشوب الدراسات الاستشراقية، إلا أنه
يظل مع هذا كتابا رائعا فريدا، وهو أحد الشهادات المهمة للحضارة الإسلامية من مؤرخ
مرموق، لم يكن مسلما، فشهادته هي من قبيل (وشهد شاهد من أهلها).
تدوينة الانطلاقة لموقع هفنغتون بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق