خلق الله تعالى الناس "شعوبا وقبائل"، ثم
أخبرهم بأن روابط الدنيا والعصبيات والقبليات لن تنفعهم، وإنما سينفعهم التقوى (إن
أكرمكم عند الله أتقاكم)، وأخبرهم أن كل إنسان سيُحاسب فردا (وكلهم آتيه يوم
القيامة فردا)، وأخبرهم أن كل رابطة بخلاف رابطة الدين لن تنفع يوم القيامة (فإذا
نُفِخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)، وحذرهم أن تكون روابط الدنيا
مقدمة عندهم على رابطة الدين (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم
وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضوها أحب إليكم من الله
ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم
الفاسقين).
فما معنى هذا؟!
معناه أن الدنيا تقوم على الروابط والعُصَب، على قوانين
القبيلة والعشيرة والعائلة.. بينما الآخرة تتعامل مع المرء فردا، وحده، خاليا من
كل رابطة، حينئذ ينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم وينظر أشأم منه فلا يرى
إلا ما قدَّم وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه!
ولذلك كانت الأمم عبر التاريخ تحكمها أقوى البيوت فيها،
أقوى العشائر، وقد أفاض ابن خلدون في بيان هذا، ولم يوجد في التاريخ حكم خارج هذا
النمط إلا في المدن اليونانية المستقلة الصغيرة، فأما الإمبراطوريات الكبرى فلم
يوجد فيها حكمٌ خارج هذا النمط سوى الخلافة الراشدة. وما سوى هذا فالأمة تحكمها
أقوى العائلات فيها ويتوارثون حكمها حتى تجري عليها السنن فتضعف عصبيتها فترثها
عائلة أخرى (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
حتى في عصرنا هذا الموصوف بالديمقراطية ثمة خلاف كبير
بين فلاسفته حول ما إذا كانت هذه الديمقراطية حقيقية أم مزيفة، بمعنى: هل هي فعلا
حقبة جديدة تتجاوز وتطوي صفحة الحكم الملكي العائلي أم أنها قناع جديد تتنكر به
الملكية بينما العائلات التي تسيطر على العالم أو تسيطر على الشعوب هي عائلات
مالكة على الحقيقة ولكنها تحكم من وراء ستار ديمقراطي؟!
فلو تأمَّلْنا في عُصَب النظام العالمي والنظم الإقليمية
حقيقة فسنجدها ذات روابط عائلية أيضا أو ما في حُكْمها، فعمالقة المال في العالم
عائلات مثل عائلة روتشيلد وروكفلر، وتتكرر هذه الصورة في كل بلد على حدة، فثمة
عائلات تسيطر على الاقتصاد أو على جوانب منه أو تحتكر تجارة بعينها أو مجالا
اقتصاديا بعينه.
ونحن هنا لا نتحدث عن النظم الملكية أو الطائفية، فهذه
أمرها واضح، وإنما نتحدث عن البلدان التي يحكمها نظام "ديمقراطي" ويبدو
فيها أن الناس هم من يختارون حاكمهم وهم من يتحكمون في سياسات بلادهم.. وقد أفاضت
الدراسات التي تنتقد "الديمقراطية" أو "الرأسمالية" في بيان
أن الناس لا يختارون شيئا على الحقيقة، وإنما يدفعهم تحالف الساسة مع رجال المال إلى
المشاركة في عملية خداع واسعة تجعل الخيارات أمامهم اختيارا واحدا على الحقيقة، ثم
هم يختارون من يدعمه رجال المال الذين يملكون الإعلام الذي يستطيع التحكم والتلاعب
بعقول الناس ومشاعرهم. ولذلك فإن كل المرشحين يعملون على كسب رجال المال إلى
جانبهم لترويجهم وتمويل حملاتهم ويعدهم في المقابل أنه سيحفظ مصالحهم (على حساب
الناس طبعا، إذ الناس مجرد ممثل مخدوع في هذه المسرحية) ولئن لم يفعل فإنهم قادرون
على اتخاذ إجراءات تفشله وتثير له الأزمات!
لهذا يختلف الفلاسفة المحدثون حول ما إذا كانت
الديمقراطية صورة جديدة من صور الملكية، وأن الملكية لم تزل النظام المستمر.
ونضيف أنه حتى لو كان النظام في أصله لا يقوم على رابطة
العائلة، فإنه سرعان ما يتحول إلى نظام عائلي، فالنظام العسكري مثلا (وهو يبدأ
عادة بانقلاب عسكري) سرعان ما يتحول إلى نظام عائلي من خلال المصاهرات التي تنشأ
بينه وبين رجال المال، فلا يلبث الأمر بضع سنين حتى ترى شبكة ضخمة من العلاقات
العائلية قد نشأت بين الرؤساء والوزراء والقضاة ورجال الأموال وأحيانا بعض
الإعلاميين، ثم ليست إلا بضع سنين أخرى حتى تقتصر وظائف بعينها على العائلات
وأبنائها فترى عائلات تكاد تسيطر على مؤسسة الجيش، وعائلات تكاد تسيطر على جهاز
الأمن، وعائلات على جهاز القضاء.. ثم تُبنى لهم مساكن خاصة وتصير لهم نواد خاصة
وتقام لهم مصايف خاصة وتبذل لهم مكافآت وبدلات خاصة، فتكون المحصلة النهائية سلطة
عائلات، لا ينشأ الولاء فيما بينهم لكونهم من السلطة فحسب، بل لكونهم أيضا عائلة
واحدة.. وتلك هي صورة العائلة المالكة الجديدة في عصر "الديمقراطية"!
وهنا يصير الأمر عسيرا، وأكثر تعقدا وخطورة، وكلما رسخت
علاقات العائلات وطال عُمْر النظام كلما كان خلعه والثورة عليه أشد كلفة وأفدح
ثمنا! وتصير الشعوب بين الخياريْن الأمرَّيْن: تحمل فاتورة الفساد والتحالف
السلطوي العائلي أو تحمل فاتورة الثورة!
وهنا نربط أول المقال بآخره..
إنه ليس أقوى من رابطة العائلة والنسب إلا رابطة
الفكرة.. وليس من فكرة أقوى من العقيدة! وليس من عقيدة أقوى من تلك التي تربط
الناس بالآخرة وتجعل أحلامهم متعلقة بالآخرة.. ففي الآخرة تزول الأنساب والروابط
ولا ينفع الإنسان إلا عمله، عمله الذي يجعله خالدا في الجنة أو خالدا في النار!
وهكذا انتصر الإسلام حين جاء به قائدنا محمد صلى الله
عليه وسلم، حين رسخ الدين في نفوس الصحابة فكان عندهم أقوى وأعلى من كل رابطة، فانتصر
على رابطة العصبية القبلية الجاهلية، العصبية التي تناصر نفسها في الحق وفي
الباطل، وتتحالف على البطش بالضعفاء وانتهابهم واغتصاب حقوقهم.
ثم إن بلادنا العربية والإسلامية لا تستطيع أن تجد
لنفسها هوية غير الإسلام، وقد فشلت محاولات اصطناع واستزراع هويات جديدة إقليمية
وعرقية، فلست تجد نداء يثير هذه الجماهير أقوى وأعمق وأوسع تأثيرا من نداء
الإسلام!
فهو النداء الذي يحرك الجماهير ويُخرج منها أفضل وأنضر
وأنفس وأثمن ما فيها فيحملها على بذل كل غالٍ في سبيل دينها!
وهو النداء الذي يُخْرج لنا من بين تحالف السلطة والمال
هذا من يريد الآخرة، كما يخرج الصالح من صلب الطالح، وكما يُخرج الله من أصلاب
المكذبين من يقول لا إله إلا الله!
وهو النداء الذي يستطيع كل حاكم عربي أو مسلم أن يحفظ
نفسه ويقوي سلطانه إذا اعتنقه حقا، فساعتها سيجد نفسه محمولا على أعناق الجماهير،
بل سيجد نفسه متربعا في قلوبهم، يفدونه بأرواحهم ويبذلون له دماءهم!
إن معركة الأمة كلها لا تنجح إلا إذا حملت هوية الإسلام
ورفعت رابطة الإسلام فوق كل رابطة.. وكل مستويات المقاومة لن تجد لها رصيدا إلا في
الإسلام!
فالحاكم إذا أراد الآخرة لم يجد سوى الإسلام.. بل وإذا
أراد الدنيا والمجد وذِكْر التاريخ وحفظ عرشه فلن يجد السبيل لذلك في هذه الأمة
إلا إن رفع راية الإسلام، وما سوى ذلك فهو مذموم لا في الآخرة فحسب، بل في الدنيا
وإن حافظ على عرشه بتنازلات يقدمها ذليلا!
وسليل الطوائف الحاكمة لن يجذبه من صف الفساد إلى صف
الصلاح والإصلاح إلا الإسلام، فهو المحفز الوحيد لترك الدنيا لأن الآخرة لا أنساب
فيها ولا روابط ولا وسائط.. وإنما سيأتي فردا ويُحاسب فردا، ولو أنه أساء فسيودُّ
(لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض
جميعا ثم ينجيه)
والمصلح الجماهيري لن يجد رصيدا يحرك هذه الأمة إلا
الإسلام.
والفرد الذائب في تيار الجمهور، الغائب بين أفواج الشعب،
المجهول المغمور.. لن يدفعه إلى التضحية في سبيل أمته أقوى من عقيدة تغرس فيه نعيم
الجنة وثواب الشهادة.
إن أمتنا في هذه اللحظة، وكل لحظة، تحتاج إلى الإسلام..
نشر في الخليج أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق