قد ذكرنا كيف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو
موضع تميز هذه الأمة وصلب خيريتها ونظام الحماية المنبث فيها، ورسمنا خريطة الشرع في القيام بهذا الأمر والنهي، ونبهنا على أمور منسية يغفل عنها الكثيرون فيه.. والآن نختم الحديث في هذا الموضوع
بهذا السؤال: ماذا لو تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
يجيب حجة الإسلام الغزالي عن هذا السؤال فيقول: "الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له
النبيين أجمعين، ولو طُوِيَ بساطه وأُهْمِل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد"([1]).
فالنتيجة إذن ليست مجرد الخراب والفساد فحسب؛ بل هو انعدام شعور الناس بالخراب والفساد، ثم الاستيقاظ بعد وقوع الكارثة وفوات زمان استدراكها.
وقد نعجب حين نجد هذا الفهم قد قال به قبل ذلك نملة، نملة
وقفت ناصحةً قومها، فكان خطابها درسًا في الفصاحة والإنصاف: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ
قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ
سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، ويوحي قول الله تعالى
"نملة" بالتنكير على أنها كانت من العامَّة لا من القادة، ويظهر في كلامها
الحرص على نجاة المجموع لا النجاة بالنفس، كما يظهر العدل في الوصف في قولها: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}؛ فليس ذلك عن تعدٍّ
منهم أو ظلم.
ومثل النملة هدهد رأى الباطل وعلم أن القوم لا يدرون أنهم
هلكى، فقصَّ ما رأى على هذا النحو: {إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
(23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}
[النمل: 23، 24].
ومن هنا نعلم أن بقاء المجتمعات مرتبط بمن يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر، وأن وجود الصالحين في أنفسهم ليس عاصمًا من الهلكة؛ بل لا بد من وجود المُصلحين: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ
أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ
أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا
مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
[هود: 116، 117].
ولذلك كانت مهمة الأنبياء نصح أقوامهم وإلا حلَّ بهم العذاب
والفناء، حتى كانت عاقبة المكذبين كما وصفها رب العالمين: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا
بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
وحين شاءت إرادة الله ألا يهلك المكذبين بكارثة كونية من
بعد إهلاك فرعون؛ فإنه بعث أمة تقوم بالحق
وتجاهد في سبيله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ ذلك هم بنو إسرائيل([2]) فلمَّا لم يقم
هؤلاء بذلك الأمر لعنهم الله: {لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]، وكان أهل النجاة منهم
هم من أنكروا المنكر: {فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].
وحين انتهى زمان الرسل كلَّف الله هذه الأمة بالقيام بهذا
الواجب، وبسط أمامهم قصص الأنبياء من قبل، وكذلك قصة بني إسرائيل الأمة الفاشلة، التي لم تحمل رسالة الله، ولم تقم بواجبها، صارت أمة الإسلام خير أمة
أخرجت للناس لقيامها بهذا الواجب: {كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وفي هذا يقول القرطبي:
"قوله تعالى: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك
واتصفوا به. فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم
الذم، وكان ذلك سببًا لهلاكهم"([3]).
ولقد جاءت أحاديث النبي r تحذر من عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أشهرها
حديث السفينة، وفيه قال رسول الله r: "مَثَل القائم على حدود الله والواقع
فيها كمَثَل قوم اسْتَهَموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان
الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا
في نصيبنا خرقا ولم نُؤْذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن
أخذوا على أيدهم نَجَوْا، ونجوا جميعا"([4]). وحين سألته زينب بنت جحش: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم،
إذا كَثُر الخبث"([5]).
وقد حرص أبو بكر الصديق على تصحيح المفاهيم، فقال t: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله r يقول: "إن الناس إذا رَأَوْا ظالمًا، فلم يأخذوا
على يديْه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" ([6]).
لكل هذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يُتَحمَّل
فيه الأذى، وقد يتعرض فيه الإنسان
إلى المخاطر؛ فهو فداء بالنفس إنقاذًا
للأمة كلها من الهلاك، ووردت روايات تفيد أن قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، نزل فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قيُقْتَل([7])، ولأجل هذا عرض صاحب القرية نفسه للقتل وهو
ينصح: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]. ولأجل هذا كشف
مؤمن آل فرعون عن إيمانه بعدما ظل يكتمه: {وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ
رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]، ولأجل
هذا أوصى لقمان ابنه: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا
أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
وقد أخبر النبي r أن سيد الشهداء: "رجل قام إلى إمام
جائر فأمره ونهاه فقتله"([8]). ونَقَلَ عبادة بن الصامت t بيعة رسول الله فقال: "بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر
أهله، وأن نقوم -أو نقول- بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"([9]).
وقد "جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين على
الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان محفوفًا بالمكاره والمخاوف، وكم قُتِل في سبيل ذلك
منهم من نبي وصديق!"([10])، وبرغم الأذى لا يكف المصلح عن الإصلاح، وقد
قال التابعي الجليل أويس القرني: "إن قيام
المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقًا، والله إنا لنأمرهم
بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذونا أعداء ويجدون على ذلك من الفساق أعوانًا، حتى والله! لقد رموني بالعظائم. وايم الله لا
يمنعني ذلك أن أقوم لله بالحق"([11]).
إن القيام
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوي ما يمكن أن نسميه: "مناعة
المجتمع"؛ ولهذا فإن القيام بالأمر والنهي حَسَّاس
لحال المجتمع أكثر من حساسيته لحال الفرد، لا سيما إن كان المرء يتخفى بالمعصية، وفي
مثل هذا قيل لابن مسعود t -وقد أُتِي له برجل-: "هذا فلان تقطر لحيته خمرًا. فقال عبد الله: إنا
قد نُهِينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به"([12]).
قال
أبو يعلى: ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار
حذرًا من الاستسرار بها([13]). وسئل
الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل، يمر بالقوم يغنون؟ قال: إذا ظهر له، هم داخل، قلت
(أي: السائل): لكن الصوت يسمع في الطريق؟ قال: هذا قد ظهر، عليه أن ينهاهم، ورأى أن
ينكر الطبل، يعني إذا سُمِع حسه([14]).
وبهذا يُحفظ المجتمع، وإلا انتشر الفساد؛ وذلك أن أغلب أحوال الفساد تكون بالاجتماع والمجاهرة
لا بالاختفاء؛ وكما يقول ابن تيمية
فإن كثيرا "من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم...
إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق.. ونحو ذلك، وإما
لتلذذهم بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلاً؛ فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم، لكراهيتهم امتيازه
عنهم بالخير إما حسدًا له على ذلك، أو لئلاَّ يعلو عليهم بذلك ويحمده الناس دونهم،
أو لئلاَّ يكون له عليهم حجة، أو لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، أو لئلاَّ يكونوا تحت
مِنَّتِه وخطره، ونحو ذلك من الأسباب"([15])، فإن عجز المسلم عن هذا فلا أقل من الهجران
والمقاطعة.
وإن العزل المجتمعي لأهل المنكرات كفيل بردهم عنه، ولقد عانى
الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله من أثر مقاطعة المسلمين لهم؛ حتى صاروا كما وصفهم الله: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118]، فصاروا يلتمسون توبة الله عليهم،
وكان أسعد ما جاءهم من الأخبار هو خبر هذه التوبة([16]).
بغير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا فرق بين مجتمع البشر
وقطيع الحيوان، يقول الشيخ محمد عبده: "إن ما نحن
فيه الآن من سوء الحال أثر تفريط كبير تمادى في زمن طويل بعدما عظم التساهل في ترك
التناصح، وبطل ردُّ ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله -أي إلى كتاب الله وسنة
رسوله- وخَوَتْ القلوب من احترام الدين؛ حتى لم يعد له
سلطان على الإرادة، بل صار كل شخص أسير هواه. ومتى أمسى الناس هكذا -لا دين ولا مروءة
ولا أدب- فأي فرق بين الطائفة منهم والقطيع من المعز أو البقر؟"([17]).
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق