في مثل هذا اليوم قبل مائة وستة أعوام (9 أكتوبر 1906)
وُلِد في عالمنا رجل سيكون له أبلغ الأثر في تاريخ أمته إلى ما شاء الله.. ذلك هو
الشهيد سيد قطب، صاحب التفسير المشهور "في ظلال القرآن" والذي يكفي أن
يُقال "الظلال" فيعرف، كما يكفي أن يقال عن سيد "صاحب
الظلال".
ولقد كان الشيخ الشهيد سيد قطب من علامات الفكر الإسلامي
على مستوى تقديم رؤية جديدة لمفهوم "الحاكمية" وطبيعة التصور الإسلامي
وخصائصه، ليست جديدة بمعنى استحداث فكرة من المجهول بل من حيث كونها إجابة شافية لمشكلات
الواقع الإسلامي. وكذلك كان الشهيد سيد قطب من علامات الحركة الإسلامية كواحد
منها، عاش منذ دخلها معركة مع الاستبداد والطغيان حتى دفع روحه ثمنا لها، وتقدم
إلى حبل المشنقة وهو يرفض أن يكتب اعتذارا للطاغية!
وحيث نعيش الآن ذكرى ميلاده، فقد آثرت أن أقتبس هذا
المقال من كلامه، فلقد حلَّل الشهيد كون المعركة الوجودية معركة عقيدة، وكيف أن
اتخاذ سبيل غير العقيدة لن يؤدي إلى الإصلاح ولا التغيير المنشود، وكتب يتخيل
ويتصور: ماذا لو أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى إلى التغيير من غير طريق العقيدة
ليتجنب التكاليف المهولة لهذا الطريق، فجاءت مقالته في هذا سهما صائبا وقاعدة
راسخة، ما أحوجنا إليها اليوم في ظل محاولات العدو إخفاء الهوية الإسلامية وطمسها
في هذا الصراع الدائر على أرضنا والذي وقوده دماؤنا، وكيف –للأسف الشديد- استجاب
لذلك كثير منا حتى صار أمر إعلان الهوية والمصارحة بها ووضوح الخطاب فيها مما
ينفرون منه ويعارضونه ويحسبونه شرا لهم!
قال الشهيد سيد قطب:
"لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين،
وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب إنما هي في يد غيرهم من الأجناس! بلاد
الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان. وبلاد اليمن
كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس.. وليس في أيدي العرب
إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحاري القاحلة، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا
وهناك! وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الأمين الذي حَكَّمَه أشراف
قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاما والذي هو في الذؤابة
من بني هاشم أعلى قريش نسبا.. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع
قبائل العرب، التي أكلتها الثارات، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص
أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة الرومان في الشمال والفرس في الجنوب وإعلاء
راية العربية والعروبة وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة..
ولو دعا يومها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة لاستجابت
له العرب قاطبة- على الأرجح- بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء
أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان خليقا بعد أن
يستجيب له العرب هذه الاستجابة وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة وبعد استجماع السلطان
في يديه والمجد فوق مفرقه.. أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها
ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن الله- سبحانه- وهو العليم
الحكيم، لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا
إله إلا الله: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ أن الله-
سبحانه- لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه.. إنما هو- سبحانه- يعلم أن ليس هذا هو
الطريق.. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى يد طاغوت
عربي..
فالطاغوت كله طاغوت!.. إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا
تخلص لله إلّا أن ترتفع عليها راية: «لا إله إلا الله».. وليس الطريق أن يتحرر الناس
في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي إلى طاغوت عربي.. فالطاغوت كله طاغوت!
إن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية: «لا إله إلا
الله».. «لا إله إلا الله» كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية
إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله.. ولأن
الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني
والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وهذا هو الطريق..
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، والمجتمع
العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة.. قلة قليلة تملك المال والتجارة
وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع.. والذين
يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا!
وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يرفعها راية اجتماعية وأن يثيرها حربا
على طبقة الأشراف وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء!
ولو دعا يومها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة، لا نقسم المجتمع العربي صفين:
الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف
المجتمع كله صفا في وجه: «لا إله إلا الله» التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا
الأفذاذ من الناس.
وربما قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان خليقا بعد أن
تستجيب له الكثرة وتوليه قيادها فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها.. أن يستخدم مكانه
يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم
بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن الله- سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه..
لقد كان الله- سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق.. كان يعلم
أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل يرد الأمر كله
لله ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع
ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ويرجو على الطاعة
فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلئ قلوب بالطمع، ولا تمتلئ قلوب
بالحقد ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها
وتختنق الأرواح كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير: «لا إله إلا الله»..
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمستوي الأخلاقي في
الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى- إلى جانب ما كان في المجتمع من
فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير
بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا
يظلم الناس يظلم
ويعبر عنه القول المتعارف: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخره
كذلك! وكانت الدعارة- في صور شتى- من معالم هذا المجتمع.. كالذي روته عائشة رضي الله
عنها أن من النكاح أن يرسل الرجل امرأته لتحمل من رجل آخر، أو يجتمع الرهط على
المرأة كلهم يصيبها ثم تنسب الولد لمن أحبت منهم، ثم البغايا صاحبات الرايات الحمر
يصيبها الرجال ثم ينسب الولد لأقربهم له شبها.
وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلنها دعوة
إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين..
وكان واجدا وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوسا طيبة، يؤذيها هذا الدنس
وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير..
وربما قال قائل: إنه لو صنع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذلك فاستجابت له- في أول الأمر- جمهرة صالحة تتطهر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح
أقرب إلى قبول العقيدة وحملها.. بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة
القوية منذ أول الطريق!
ولكن الله- سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله صلى
الله عليه وسلم إلى مثل هذا الطريق..
لقد كان الله- سبحانه- يعلم أن ليس هذا هو الطريق! كان يعلم
أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم وتقرر السلطة
التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه
على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل
الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء! فلما تقررت
العقيدة- بعد الجهد الشاق- وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لما عرف الناس
ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء.. لما
تقررت في القلوب: «لا إله إلا الله».. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون..
تطهرت الأرض من الرومان والفرس.. لا ليتقرر فيها سلطان العرب..
ولكن ليتقرر فيها سلطان الله..
لقد تطهرت من الطاغوت كله: رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء..
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي
يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده؟
ويسميها راية الإسلام، لا يقرن إليها اسما آخر ويكتب عليها: «لا إله إلا الله»!
وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح دون أن يحتاج
الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله- إلا في الندرة النادرة- لأن الرقابة قامت
هنالك في الضمائر ولأن الطمع في رضى الله وثوابه، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد
قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات..
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها،
إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا
في ظل الإسلام"[1].
انتهى كلامه رحمه الله.
نشر في مصري 24
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق