ذكرنا سابقا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مما
امتازت به هذه الأمة بين المناهج الوضعية والفلسفات جميعا، وأن مكانه في البناء
الإسلامي للمجتمع كمكان جهاز الإنذار المنتشر في البناء المادي، يهرع المسلمون لمعالجة الخطأ
كما يهرع المسعفون لمعالجة الخطـر. ثم ذكرنا خريطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما وضعها الغزالي، وذكرنا قول العلماء
التي تجعل كل تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مذموما.. فيُرجى الرجوع
إليهما.
وموعدنا في هذه السطور مع أمور منسية يغفل عنها الكثيرون
إذ يتعرضون لهذه العبادة:
(1)
ينسى الكثيرون أن الفريضة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ وليس نهيًا فقط، فجانب
التعاون على الخير مُقَدَّم على النهي عن الشر والإثم، ولشيخ الإسلام كلام لطيف ينقد
فيه قومًا اهتموا بالنهي عن المنكر، ولم يقوموا بالأمر بالمعروف، يقول: "كثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين
في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به. ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك
العبادات المشتملة على نوع من الكراهة. بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر
بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه؛ إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل،
لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العلم السيئ،
أو الناقص، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح، نهيت عنه حفظًا
للعمل الصالح"([1]).
(2)
وينسى الكثيرون أيضا أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ضوابط وآداب وأصول، موجزها وجماعها ثلاثة
أمور ينبغي أن يتحلى بها المتصدي للأمر والنهي، هي: العلم، والرفق، والصبر
1. فأما العلم فلكي يكون الأمر والنهي في محله، فلا يأمر
بمنكر -وهو يظنه معروفًا- أو ينهى عن معروف -وهو يظنه منكرًا- أو ينهى عن منكر فيؤدي
إلى منكر أشد منه، أو تزدحم أمامه المصالح فلا يقدر أيها أولى، وقد قيل للإمام أحمد
عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك. فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة؛ وذلك لأنهم إن لم ينفقوا على المصاحف فسينفقونها
في كتاب من كتب الفجور: مثل كتب الأسمار أو الأشعار أو الفلسفة([2]).
ولهذا فتقدير المصالح والمفاسد ينبغي أن يكون حاضرا في
ذهن المفتي والمتصدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ المسألة ليست حفظ نصوص
فحسب، ولا هي حماسة اندفاعية لا تتدبر عواقب الأمور.
وصحيحٌ أن الناس يختلفون في العلم وفي تقدير المصالح
والمفاسد، ولهذا فحسب كل امرئ أن يأمر بما يتيقن أنه معروف وينهى عما يتيقن أنه
منكر، ويُقدم حين يغلب على ظنه الإتيان بالمصلحة والابتعاد عن المفسدة.
2. وأما الرفق فلكي يحصل المقصود من الأمر والنهي، فلا يكون
بين القائم به والمنصوح به نفرة وجفوة وابتعاد، بل هو حبٌّ يدعو إلى حرصٍ ويُبذل في
ظلال الشفقة، ولقد قيل للنبي r وهو أكمل البشر: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقيل لموسى
وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}
[طه: 43، 44]، فالدعوة مع الرفق أبلغ في حصول المأمول كما قال النبي r: "إن الرفق لا يكون
في شيء إلا زانه، ولا يُنْزَع من شيء إلا شانه"([3]). وفي حديث آخر ذكر النبي أن حظ الإنسان من الرفق
هو حظه من الخير، قال r: "من
يُحْرم الرفق يُحرم الخير"([4]).
وفي زماننا هذا، حيث المسلمون في حال استضعاف في عمومهم،
ينبغي أن يكون حال دعاتهم من الشفقة والرحمة واللين مع الناس والتواضع لهم أعظم
حظا من سائر الأزمان، وذلك لأمريْن: أولهما: أن الأحوال المفسدة تحيط بالناس حتى
ليحتاج انتزاعهم منها والصبر على ما أصابهم من فسادها كثيرا من الرحمة والشفقة،
تماما كالشفقة المطلوبة لمريض في بيئة موبوءة. وثانيهما: أن الدعاة ليسوا في حصن
أحد ولا حماية أحد ولا يسعهم إن أرادوا وصول دعوتهم ونصائحهم للناس إلا أن يبذلوها
من موقع الطبيب الصبور الذي يعلم أنه حين يستكثر من التائبين والصالحين فإنه إنما
يستكثر لنفسه ولأهله ولولده، فهو يدافع عن نفسه وأهله بكسب المزيد من الصالحين في
محيطه.
3. وأما الصبر فأصله في قول الله تعالى على لسان لقمان الحكيم: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، والوصية بالصبر موجهة لكل ذي رسالة، ولقد كان من أوائل ما
نزل على النبي r: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ
(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7]، وأفضل الأنبياء
هم أكثرهم صبرًا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ
أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35]، ولا يزال
كل داعية مأمورًا بالصبر حتى يرى موعود الله إما في الدنيا أو في الآخرة، فلا غنى للإنسان
عن الصبر.
فعلى المسلم أن يتخلق بهذه الصفات في قيامة بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وأن يتدرب على التخلق بها إذ يقوم بهذه الفريضة.
(3)
ولكن: ماذا يفعل من لم يتخلق بهذه الآداب في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، هل له أن يترك هذا؟
يجيب عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "وليُعلم
أن اشتراط هذه الخصال (العلم، الرفق، الصبر) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما
يوجب الصعوبة على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه؛ وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر من دون هذه
الخصال أو أقل، وفعل ما نهى الله عنه في الأمر معصية. فالمنتقل من معصية إلى معصية
كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل قد يكون الثاني
شرًّا من الأول، وقد يكون دينه، وقد يكونان سواء، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي،
والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكون ذنب ذاك أعظم، وقد يكونان سواء"([5]).
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق