وصلنا إلى ختام سلسلة "اليهود بين أمة
الإسلام والأمم الأخرى"، وقد عرضنا فيها بإيجاز واختصار سريع لأحوال اليهود
في ظل الأمة الإسلامية عبر مختلف الأحقاب، وهو الموضوع الذي التزمنا فيه أن ننقل
حصرا عن المستشرقين والمؤرخين الغربيين كي تكون الحجة أبلغ والشهادة أقوى. وقد
بدأنا في المقال الأول حديثا عاما عن حظ اليهود من الحياة بين المسلمين مقارنة
بحظهم منها لدى الأمم الأخرى وعن منهجنا في النقل، ثم تحدثنا في المقال الثاني عن
اليهود في ظلال الخلافة الراشدة، وفي الثالث: عن اليهود في ظلال الدولة الأموية
والعباسية، وفي الرابع: عن اليهود في الأندلس، وفي الخامس: عن اليهود في الدولة
العثمانية.
ليس من أولئك الذين نقلنا عنهم أحد كانت له
مصلحة في نفاق المسلمين أو تزوير التاريخ، إذ سائر هذه الكتب كتبت في عصر الاحتلال
والهيمنة الغربية على بلادنا، بل هي كتبت كذلك في عصر صعود القوة اليهودية
والصهيونية سواء قبل هرتزل وحتى ما بعد تأسيس إسرائيل. وإنما كان الأمر بحثا علميا
بحتا، والواقع أن الأمم حين تكون في مواجهة مستعرة ومتكافئة مع عدوها تنحو الحالة
الثقافية العامة بما فيها البيئة العلمية نحو التشويه والتخويف والتشنيع فتكون
سلاحا في المعركة القائمة، بينما حين يهدأ غبار المعارك ويتحقق النصر الكامل ولا
يبقى ثمة تخوف أو تهدد من العدو فإن البيئة العلمية تنحو إلى الدراسة الموضوعية
للخصم بينما تُتْرك مهمة التشنيع والتخويف للأداة الإعلامية. والبيئة العلمية
نفسها في بحوثها الموضوعية لا تنفك أيضا أن تكون سلاحا في المعركة، ذلك أنه يعتمد
الدراسة الموضوعية بغرض الوصول إلى الحقائق التي تمهد له سبل السيطرة والهيمنة
واكتشاف الثغرات.
وتلك سيرة الاستشراق منذ بدأ، لقد بدأ في عصر التفوق الإسلامي
والتهدد الوجودي الأوروبي فكان حالة عامة من الهياج والخوف والتشنيع والتشويه، ثم
انتهى في عصر التفوق الغربي ليكون أداة علمية قوية وكاشفة تحاول فعلا سبر أغوار
الأمة وفهمها عبر الدراسة العلمية الموضوعية الرصينة.
وخلاصة ما نختم به هذه السلسة أن نعيد
التذكير بأن المسألة اليهودية في التاريخ الإسلامي فرع عن مسألة أهل الذمة بشكل
عام، وهي المسألة المحاطة بنصوص الوحي وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء
بشأنها ما لا يمكن أن يوجد في قانون حماية أقليات لا في ذلك العصر ولا حتى في
عصرنا هذا، وأهم من مجرد وجود النص أن يكون هذا النص نصا دينيا مقدسا، يطبقه
المسلم وهو يتعبد لله به لا لمجرد تنفيذ قانون السلطة الذي لا يتمتع بالقدسية
الدينية في ضمير من ينفذه مما يفتح الباب واسعا للتلاعب واستغلال الثغرات، ونحن في
عصرنا هذا نرى ما يحدث للمسلمين في بلاد تُسوِّق لنفسها على أنها دولة مؤسسات
وقانون راسخ وقضاء مستقل!
من هنا، كان القانون الإسلامي ذا خصوصية،
حتى إنه يمكن إجمال تاريخ أهل الذمة كله تحت ظل الإسلام في قول المؤرخ والمستشرق
الفرنسي إدوارد بروي:
"قلما عرف التاريخ، والحق يُقال،
فتوحات كان لها، في المدى القريب، على الأهلين مثل هذا النزر الصغير من الاضطراب
يحدثه الفتح العربي لهذه الأقطار. فمن لم يكن عربيا من الأهلين لم يشعر بأي اضطهاد
قط. فاليهود والنصارى الذين هم أيضا من أهل الكتاب، حُقَّ لهم أن يتمتعوا بالتساهل
وأن لا يُضاموا، والمطلوب من هؤلاء السكان أن يُظهروا الولاء للإسلام ويعترفوا
بسيادته وسلطانه، وأن يؤدوا له الرسوم المترتبة على أهل الذمة تأديتها، والامتناع
عن كل دعوة دينية لهم لدى المسلمين. وفي نطاق هذه التحفظات التي لم تكن لتؤثر
كثيرا على الحياة العادية، تمتع الذميون بكافة حرياتهم"[1].
إلا أن عددا من الباحثين رأى أن اليهود
تمتعوا بوضع خاص بين أهل الذمة طوال التاريخ الإسلامي، منهم المؤرخ الأمريكي
اليهودي سالو و. بارون، الذي يوصف بأنه "أعظم مؤرخ يهودي في القرن
العشرين"، الذي يقول: "في الحقيقة يبدو أن هنالك نوعا من الود لطبيعة
اليهود في حضارة الإسلام. وبالرغم من تصنيفهم ضمن فئة الذميين غير المحببة، فواقع
الأمر هو أن المراكز الأكثر ازدهارا للمجتمعات اليهودية، منذ نشوء الخلافة حتى
إلغاء أحياء اليهود في أوروبا، قد تواجدت في البلاد الإسلامية: في العراق أثناء
الحكم العباسي، وفي إسبانيا خلال فترة سيطرة البربر، وبعد ذلك في الإمبراطورية
العثمانية"[2].
وهذه العبارة وحدها من مؤرخ كهذا كافية كدليل في موضوعنا هذا.
ولما انقلبت أحوال الأمة وأحوال اليهود،
انقلب الحال، ورأينا منهم فعل من لم يرع فضلا ولا وفَّى جميلا، ولم نستغرب فقد قال
الله تعالى (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)، وكيف نستغرب أن ينقض
العهد معنا من نقض العهد مع الله، وكيف نرجو ودادا ممن قتلوا الأنبياء إن جاءوهم
بما لا تهوى أنفسهم؟!
ولو عاد بنا الزمان لعدنا إلى سيرتنا الأولى
ذاتها ولم نعاملهم بأخلاقهم، فإننا في الأولى وفي القادمة نرعى أمر ربنا ونحفظ
وصية نبينا، فلا نندم على ما فعلنا ولا نعزم على تغيير ما قدمنا.. وذلك أيضا فارق
بين من كان الإسلام منطلقه وبين من اتخذ له منطلقا آخر من قانون أو سياسة أو
انتقام.
بقيت كلمة في شأن المستشرقين الذين تناولوا هذا الموضوع:
لقد أنصف بعض المستشرقين –كجوستاف لوبون
وزيجريد هونكه وتوماس أرنولد- إذ عرضوا لتاريخ التعامل الإسلامي مع اليهود، بينما
الغالبية استكبرت عن قول الحق واضحا فعرضت للموضوع بعبارات يكثر فيها الاستدراك
والاستثناء والالتفاف والمناورة، ومع هذا عجز أغلب هؤلاء عن أن يكتموا حقيقة
التاريخ فانتزعنا من كلامهم هذه الفقرات السابقة، ولا ننكر أن بعضا آخرين –كجوستاف
جرونيباوم- بلغ من الإنكار والتلاعب بالصياغة ما عجزنا نحن معه على أن نأخذ شيئا
واضحا صريحا، فلو أن المقام مقام مناظرة واحتجاج لكانت لنا وقفات تعليق وتعقيب
وكشف للتناقض والمناورة والتلاعب، لكنه مقام استشهاد بالصريح من كلامهم، ولهذا
أخذنا ممن أنصف وممن حاول الالتفاف والمخادعة، وتركنا الآخرين لمقام آخر إن شاء
الله تعالى.
نشر في مجلة المجتمع
[1] إدوارد
بروي، القرون الوسطى، ضمن "موسوعة تاريخ الحضارات العام"،
بإشراف: موريس كروزيه، مرجع سابق، 3/116. باختصار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق