قال
الجبرتي:
"في يوم الأربعاء رابع عشري الحجة آخر
سنة 1147 [أي اليوم التالي لعيد الأضحى من هذه السنة، وهو يوافق 7 مايو 1735م]
أشيع في الناس بمصر بأن القيامة قائمة يوم الجمعة سادس عشري الحجة [بعد يومين
فقط]، وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة حتى في القرى والأرياف وودَّع الناس بعضهم
بعضا:
1.
ويقول الإنسان لرفيقه: بقي من عمرنا يومان، وخرج الكثير من الناس والمخاليع
الغيطان والمنتزهات، ويقول بعضهم لبعض: دعونا نعمل حظا ونودع الدنيا قبل أن تقوم
القيامة.
2.
وطلع أهل الجيزة نساء ورجالا وصاروا يغتسلون في البحر.
3.
ومن الناس من علاه الحزن، وداخله الوهم.
4.
ومنهم من صار يتوب من ذنوبه ويدعو ويبتهل ويصلي.
5.
واعتقدوا ذلك ووقع صدقه في نفوسهم، ومن قال لهم خلاف ذلك أو قال: هذا كذب لا
يلتفتون لقوله.
6.
ويقولون: هذا صحيح، وقاله فلان اليهودي وفلان القبطي، وهما يعرفان في الجفور
والزايرجات ولا يكذبان في شيء يقولانه، وقد أخبر فلان منهم على خروج الريح الذي
خرج في يوم كذا، وفلان ذهب إلى الأمير الفلاني وأخبره بذلك وقال له: احبسني إلى يوم
الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني. ونحو ذلك من وساوسهم.
وكثر
فيهم الهرج والمرج الى يوم الجمعة المعين المذكور. فلم يقع شيء! ومضى يوم الجمعة
وأصبح يوم السبت
7.
فانتقلوا يقولون: فلان العالم قال: إن سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا
في ذلك وقبل الله شفاعتهم، فيقول الآخر اللهم انفعنا بهم فاننا يا اخي لم نشبع من
الدنيا وشارعون نعمل حظا ونحو ذلك من الهديانات".
انتهى
كلام الجبرتي.. والذي نقلته بحروفه، ولم أتدخل إلا بالترقيم وبتوضيحين بين معقوفين
[..].
في
هذا المشهد نرى أن الشائعة استطاعت أن تنتشر انتشارا واسعا في القاهرة والقرى
والأرياف رغم أن الزمن كان أسرع ما فيه الحمام الزاجل! حتى لكأن بعض الشائعات لها
قدرة انتشار ذاتية تهزم به حواجز الزمن والمسافات! وفيه نرى أيضا أصناف الناس
ومذاهبهم في التعامل مع النوازل الكبرى المتوقعة، وقد رصد الجبرتي منهم سبعة أصناف:
1.
فمنهم من لا يرى في أي حادثة إلا مصدرا أو فرصة للهو واللعب والضحك والمرح، ولعل
أولئك هم القادرون دائما على ابتكار النكات الساخرة التي تخرج في أشد أوقات الأسى
والبؤس حتى كأن الذي ابتكرها يعيش في عالم وحده، يراقب المشهد من بعيد بغرض إنتاج
نكات جديدة. ففي هذه الواقعة التي بين أيدينا أشيع بين الناس أن يوم القيامة بعد
يومين فبادروا إلى قضائهما في اللهو واللذة لأنهما آخر يومين في الحياة! فتشاوروا
في اختيار المتنزهات وأماكن اللهو والحقول التي ستشهد آخر نعيمهم!
2.
ومن الناس من تفاعل مع الموقف بعقلية جماعية لا تزال تحير علماء الاجتماع في
تفسيرها، السلوك الجمعي للبشر واحد من أهم الحقول التي لا تزال تُدرس لفهمها، يُقال
بأن الناس تتعامل مع الموقف الجمعي تبعا لأول ردة فعل، وأن أي إنسان يستطيع قيادة
أي تجمع حائر لو تصرف كقائد. يضربون لها مثلا باجتماع الناس حول حادث مثلا فإذا
أتى رجل من الخلف قائلا "وسَّع يا جدع" وتقدم باعتباره يملك الحل، فإن
الناس بتلقائية تفسح له دون سؤال ولا تردد ودون معرفة سابقة، مع أنه قد يكون مجرد
متفرج جديد! كذلك من يسارع للتعامل مع المريض أو المصاب كأنه طبيب فإن الناس
تستسلم له ويتركونه لفحص المريض وإذا طلب دواء كذا أو كذا هرع بعضهم لتنفيذ
أمره!.. في الواقعة التي كانت أيام الجبرتي سارت في أهل الجيزة طبيعة تصرف جماعية
وهي أنهم نزلوا يغتسلون في نهر النيل.. لماذا؟ ولأي غرض؟ وبأي دافع؟.. الله أعلم!
لعلهم اتبعوا في هذا التصرف رجلا بدأ به وعملت النزعة الجماعية على نشر هذا
السلوك.
3.
بعض الناس كالعادة أوقفوا حياتهم، ودخلوا بيوتهم، وتلفعوا بأحزانهم.. يمارسون
الانتظار! وهو سلوك كثير من الناس إذا شعر أن الموقف أكبر منه وأنه لا يملك حياله
أي شيء، وأن كل شيء صار بلا فائدة، ولم يعد من جدوى لأي شيء.. أتصور لو أن هؤلاء
في زماننا لكان الواحد منهم أغلق هواتفه وجلس في غرفته بعد أن أغلقها عليه! ولو
كان به بعض الإيجابية لقضى وقته في التعليق على كل منشور بمواقع التواصل الاجتماعي
بما معناه: "انتوا بتتكلموا في ايه، ده القيامة هتقوم"، فلو رأى منشورا
يدعو للتوبة قال: "خلاص، مفيش فايدة.. اللي تاب تاب زمان"، ولو رأى
منشورا يدعو للهو قال: "والله انت ما عندك دم.. بعد بكرة ربنا هيحرقك"!
4.
ومن الناس من تذكر الله تعالى فصار يتوب ويصلي ويبتهل في محاولة أخيرة لتغيير
مصيره في الآخرة.. ولا شك أن هذا أفضل المنازل، وأفضل العمل فيه هو واجب الوقت: إن
كانت الصلاة أو الجهاد أو غيرها، وفي الحديث أن النبي جعل أفضل العمل لمن يغرس
الفسيلة أن يغرسها. وأتذكر أن قريبا لي –وكان تاجرا في قرية بالصعيد المصري- روى
لي أنه في عام 1996 تقريبا، وكانت مصر تشهد كسوفا للشمس –ولم تكن شهدته من قبل
لأعوام طويلة- صار يأتيه الناس ويسددون له الديون التي عليهم لأن القيامة ستقوم
يوم الأربعاء (يوم الكسوف)، كي يتحللوا منها، حتى صار يضحك قائلا: وماذا سأفعل أنا
بالأموال إن كانت القيامة ستقوم أيضا!
لكن
مشكلة هذا الصنف هو في تصديقه الوهم والخرافات، مشكلته في تسليمه نفسه للدجالين
والكذابين، وأنه يخضع لقولهم دون فحص.. فلئن كانت استجابته أفضل من غيره، إلا أن
الخطر يأتيه من هذه الخصلة.
5.
من الناس من سيبذل جهده في مواجهة هذه الشائعة، ويقدم العقل على العاطفة، ويقاوم السلوك
الجمعي العام السائد، ويجادل بأن هذا كذب.. لكنه سيكون الصوت الأضعف في غمرة
الفوران الجمعي المستجيب للشائعة، وأخطر وأكبر من يؤجج هذا الفوران الشعبي في
مقابله هو الصنف القادم:
6.
أولئك الذين يتبرعون من تلقاء أنفسهم لإثبات الشائعة وتأكيدها واختراع الأدلة لها،
هنا يتفاعل خليط من الكذب والهوى وحب الظهور والشهرة ليصنع هذا الصنف من الناس. والمؤسف
أن هؤلاء ليسوا بالقليل بل إن وجود أحدهم يشجع ظهور آخرين على نفس المنوال، في
الواقعة التي بين أيدينا اخترعت الأدلة والقصص والروايات والمصادر التي تؤكد
الشائعة، فهذا فلان اليهودي وفلان القبطي الذين يعرفون الغيوب وعلم المستقبل،
ويُخترع لهم تاريخ من النبوءات الصادقة كالمريض الذي شُفي وفلان الذي رزق بالولد
وفلانة التي رجع إليها زوجها.. إلخ! والريح التي أخبروا أنها تهب فكانت كما قالوا،
واخترع آخرون قصة تزيد التأكيد عن فلان الذي ذهب إلى الأمير الفلاني وقال له:
احبسني إلى يوم الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني.
ولا
شك أن كل واحد فينا يتذكر أشياء من هذه، لا سيما في أوقات الثورة والاضطرابات،
والمصادر التي تتحدث عن هروب فلان أو مقتل فلان أو تحذير فلان أو الاتفاق على
الأمر الفلاني أو ترتيب الوضع السياسي بالشكل الفلاني، ويتضخم الخبر ويتأكد عبر
شبكة من الكذابين الذين لا يتثبَّتون ولا يتبينون، بل لقد تخصصت حسابات على تويتر
وفيس بوك في نشر الشائعات وتخصصت حسابات أخرى في تأكيد وترسيخ ما يُنشر! ثم ينفض
السامر على الكذب.. لكن الحسابات تواصل مهمتها لأن كافة شرائح الشائعة لا تزال
تتعامل معها كأنه لم يحدث شيء من قبل.. وأولئك هم الفئة السابعة.
7.
هؤلاء هم الذين لما لم تقم القيامة في اليوم الموعود اخترعوا قصة غيبية تماما،
شفاعة انطلق بها الأولياء الصالحون لله تبارك وتعالى، فقبل الله شفاعتهم ومدَّ في
عمر الحياة الدنيا!!
إن
الشائعة تجد من يخترع لها قصة دارت في الملكوت الأعلى لئلا تكون كاذبة، أي أن
المخدوع بالشائعة كان أهون عليه أن يكذب مرة أخرى على الله وعلى أوليائه الصالحين
من أن يعترف بأنه أخطأ أو كان من المغفلين!..
ولولا
أني لا أريد حرف المقال عن فكرته العامة لذكرت بعض أسماء الصحافيين والإعلاميين
الذين تخصصوا في نقل ما يحدث في الغرف المغلقة بين الرجل وزوجته أو الوالد وابنه
أو ما دار في مكاتب الرؤساء ورؤساء المخابرات وفي الدوائر السياسية الضيقة التي لا
يتسرب منها الهواء، فينشرونه على الصفحات ليفسرون به حركة التاريخ وليستروا به
عورة كذبهم ودجلهم!!
نفس
ما رواه الجبرتي قبل ثلاثة قرون وقع لمجموعة في أمريكا من عام 1955، حيث اعتقدوا
بأن نهاية العالم ستكون الساعة الرابعة من يوم 21 ديسمبر، ووقعت قصة لا تختلف في
جوهرها عما رواه الجبرتي، خلاصتها أن المؤمنين ستأتيهم أطباق طائرة في فناء منزل
سيدة بعينها لتستخلصهم وتنقذهم، وهو ما حدا بالمؤمنين إلى التجمع في منزل السيدة،
ثم فشلت نبوءتهم عند الساعة الرابعة! وهي القصة التي استخلص منها عالم النفس
الشهير ليون فينجستر نظريته عن التنافر الإدراكي، ونشرها في كتابه "عندما
تفشل النبوءة"، محاولا تحليل التفسيرات التي قدمتها المجموعة حين تناقض
الواقع مع ما آمنوا به[1].
مثل
هذه المواقف تثبت أن الإنسان هو الإنسان، وأنه لا يخضع لمعايير التقدم المتعلقة
بالمادة، ولذا لا يصح أن يُقال بأن شعبا ما متقدم أو شعبا ما متخلف لمجرد العرق أو
البقعة الجغرافية أو نوع الثقافة.
المطلوب
الآن أن تغمض عينيك وتتخيل: كيف تستعمل السلطة هذه الطبائع الإنسانية لتتحكم
بالناس وتسيطر عليهم؟ وإذا أتيح لك أن تقدم مقترحاتك لمكافحة هذا، فبم يمكن أن
تنصح؟! كلما كنت صاحب تفكر وتأمل أعمق كانت نصائحك ومقترحاتك أصوب وأجود.
نشر في مدونات الجزيرة
[1] Leon Festinger et al, When Pophecy Fails,
(Minneapolis: Minnesota Univeristy press, 1965) p. 30 – 192.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق