في ثنايا المذكرات والسير الذاتية تكمن مواقف كاشفة، لا
أحسب أنه يمكن فهمهم بدونها مهما طالت القراءة لهم، وكثيرا ما تتبدى في تلك
المواقف تناقضات واختلافات مثيرة.. وكثيرا ما راودتني نفسي أن أجمع هذه المواقف
التي أسمعها من بعض الشيوخ والعلماء والرموز، أو التي أقرؤها في مذكراتهم، متوقعا
أن جمعها قد يتيح دليلا كاشفا للباحثين في التاريخ والباحثين في تراثهم.. ولعل هذا
يكون إن شاء الله!
سأذكر في هذا المقال بعض المواقف التي لا أنساها منذ
قرأت مذكرات الشيخ القرضاوي حفظه الله:
(1) الدعاة والتخطيط
قال القرضاوي عن التلمساني:
"قيل له يوما: لا بد لنا من خطة استراتيجية تستلهم الماضي
وتعايش الحاضر وتستشرف المستقبل.
فقال: لا أرى أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى هذا كله، هل
يحتاج قولك للناس: اتقوا الله واعملوا بإسلامكم إلى استراتيجية وخطة مستقبلية...
إلخ
فقلت له: يا فضيلة الأستاذ، نحن لسنا مجرد وعاظ نذكر
الناس بالله والدار الآخرة، نحن مع ذلك دعاة إصلاح للأمة وتجديد للدين ولنا أهداف
كبيرة، نريد الوصول إليها، وهذه الأهداف تحتاج إلى وسائل متنوعة، وإلى مراحل
محددة، تسلم كل مرحلة إلى الأخرى، كما علينا أن نحدد المفاهيم التي تلتبس على
الناس، ونرد الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام، ونضع المفاهيم العلمية والدعوية
والتربوية وغيرها اللازمة للنهوض بالأمة، والسير بالجماعة إلى الطريق الأقوم
والسبيل الأوضح.
كان الأستاذ التلمساني مثالا في الرقة والرقي وحسن
الخلق، هذا مع صلابته الفولاذية، وأتذكر أني حين قرأت مذكراته "ذكريات لا
مذكرات" دهشت للغاية منهما معا، من رقته وصلابته!.. كان رقيقا إلى الحد الذي
يحتفظ فيه ببقايا ورقة مهترئة لأنها من خط البنا في رسالة إليه، وكان صلبا إلى
الحد الذي أنه لما فُتِحت الزيارة في السجون لم يزد على أن صافح زوجته مصافحة
باليد بعد السنوات الطويلة لكي لا يبدو منه ولا منها ما قد يُشمت بهما ضباط السجن!
(2) الطغاة والتخطيط
قال القرضاوي عن صدام حسين عند احتلاله الكويت:
"كان صدام قد مهد لذلك بمحاولة كسب الرأي العام
العربي إلى صفه، فبدأ يتظاهر بأنه مع الإسلام، وأنه لم يعد متمسكا بأفكار البعث،
وأضاف إلى علم العراق كلمة "الله أكبر". ودعا أكثر من مرة إلى مؤتمرات
عنده، حشد فيها من علماء الدين من استطاع حشده من بلاد العرب والمسلمين، ليعلن أنه
ليس ضد الدين.. بل هو ناصر الدين!
وفي آخر مؤتمر عقده شارك فيه عدد كبير من علماء الأمة
منهم شيخنا الشيخ الغزالي، والشيخ عبد الله الأنصاري من قطر، وغيرهما. وقد حرص على
أن يجتمع بالشيخ الغزالي قبل سفره اجتماعا خاصا طال لمدة ساعتين، وتأخرت الطائرة
التي تقله حتى ينتهي الاجتماع. وقال الشيخ الغزالي: يبدو أن الرجل تغير، وسبحان
مقلب القلوب! وعاد الشيخ الأنصاري يتحدث عنه وكأنه أحد أبطال
الإسلام!
وكان أخونا الشيخ أحمد البزيع ياسين في الكويت من أكبر
الدعاة لصدام، وكنت أختلف معه بشدة حين نلتقي في اجتماعات مجلس إدارة الهيئة
الخيرية الإسلامية، وهو أمين الصندوق فيها، وكان يقول لي بثقة واعتزاز: إنه فحل
العرب!
أحسب أنه كان -بهذه الأمور كلها- يهيئ النفسية العربية
والذهنية العربية لما يريد أن يفعله.
وأحمد الله أني لم أشارك في شيء من هذا، وقد دعيت أكثر من
مرة لمؤتمرات صدام، وألحَّ عليّ في الدعوة السفير العراقي في قطر، ولكني اعتذرت
وأصررت على الاعتذار، وكانوا يقولون في العراق: هناك عالمان فقط لم يستجيبا لدعوة
العراق أو دعوة صدام: أبو الحسن الندوي في الهند، ويوسف القرضاوي في قطر. وذلك من
فضل الله علينا وعلى الناس"[2]. (انتهى الاقتباس)
(3) الخلاصة
بين
هذين الموقفين في مذكرات القرضاوي نحو مائتي صفحة، وبينهما في الواقع نحو عشرة
أعوام، ولربما لم يكن القرضاوي وهو يروي الموقف الثاني يربط بينه وبين الموقف
الأول، وهما موقفان –بغض النظر الآن عن شخوصهما- يكشفان لماذا ساد الثاني وأمثاله
على مثل الأول وأمثاله!
هنا
يستسهل الداعية ويحسب الدعوة أمرا بسيطا فطريا لا تحتاج إلى تخطيط وتدبير، وهنا
يقسر الطاغية نفسه ويفعل ما هو خلاف طبعه،
ويتنزل ويتنازل، ويتودد إلى أمثال من كان يعذبهم بالأمس أصغر ضابط من رجاله، وما
ذلك إلا ليبلغ مراده ومقصوده.. ثم هو ينجح! ولسنا على الحقيقة نحتاج أن نتذكر
مواقف قديمة، ونحن لدينا أمثال السيسي الذي خطط ودبر لخداع العلماء والدعاة في مصر
حتى أنزل نفسه منهم منزلة الخادم الوضيع (والمواقف في هذا كثيرة تروى بالدموع
الضاحكة أو الباكية)، حتى نسوا تاريخه ومكانه ووظيفته وقالوا: تغير أو حتى قالوا:
مؤمن آل فرعون!
نشر في مدونات الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق