وُلدت
في 24 يونيو 1954م، في أجواء أزمة الإخوان المسلمين، وكانت أزمتهم بدأت في مارس،
أي أنني وُلدت بعد بداية الأزمة بثلاثة أشهر، وكانت قريتى تُدعى نجع دُنْقُل،
وكانت قرية صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، وهي تابعة لمركز أرمنت محافظة قنا آنذاك،
وأصبحت الآن تابعة لمحافظة الأقصر.
كان
والدي من قرية تدعى المراعزة، وكذا أعمامي جميعهم، ونحن ننتمي لقبيلة تسمى الفريحات
ينتهي نسبها لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. وأما أمي فهي من نجع دنقل من سلالة
ينتهي نسبها إلى تنقلا بالسودان، وهي أيضا تنتهي بالنسب إلى قليلة جعفرية، فيلتقي
نسب والدي ووالدتي بالجعافرة سواء جعافرة السودان أو جعافرة مصر، ولست أعرف
بالتحديد عند أي جدٍّ يلتقي نسبهما، لكني أتصور أن جدتي لأبي ووالدة جدي لأمي
أخوات، لكن لا أعرف نسب الرجال في أي جد يلتقون.
ما
أذكره من ميلادي هو من رواية أمي، لقد ولدت مريضا بالربو "حساسية الصدر"،
وأتذكر أنني في سن الخامسة كانت تنتابني نوبات ربو شديدة جدا، ولم يكن بالقرية شيء
من وسائل العلاج أبدا، وقد بلغت مرحلة الموت مرات عديدة، وكانت والدتي –كما روت
لي- تعالجني بطريقة خاطئة، كانت أمي امرأة لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وكانت تظن
أنها إذا جعلت صدري إلى أسفل ورجليّ إلى أعلى أنها تساعدني على التنفس بشكل أفضل،
إلا أن هذا كان يزيد من الأزمة لا يعالجها، وهذا الوضع هو مرحلة مميته لمريض الربو
لأن الرئتين يزيد عليهما الضغط، ويتطلب الحجاب الصدري الجلوس أو الوقوف.
أول
ما أتذكره بنفس دون رواية من أحد كان وأنا في سن الرابعة، في ذلك الوقت دفعتني
ابنة عمتي "شربات" فوقعت على الأرض، فدخلت في يدي قطعة زجاج، ولما لم
يكن في القرية أية وسيلة من وسائل العلاج، فقد جاءت والدتي فنزعت هذه القطعة فتدفق
الدم غزيرا من الجرح الغائر، ثم أحرقت بعضا من الورق وبقايا مصاصات القصب فأحرقتها
حتى استحالت رمادا، فأخذت من الرماد وكبست به الجرح ليتوقف تدفق الدم. إن خلو
قريتنا من أبسط وسائل العلاج كثيرا ما أفضى إلى الموت، وإني أتذكر وفاة خالتي التي
كانت في حال الولادة، وكانت أقرب مستشفى على بعد ثلاثة كيلومترات، فوُضِعت على
عربة كارو يجرها حمار، وعندما وصلت كانت قد فارقت الحياة. لقد كانت قرية غارقة في الفقر
والجهل.
كان
جدي عمدة القرية، ومع هذا لم نكن نعرف الكراسي في بيوتنا، كانت الكراسي معدومة إلا
في البيوت الكبيرة، أو في منظرة العمدة، وأما البيوت فالناس يجلسون على الدِكَك،
وهي تقارب "الكنبة" المعروفة اليوم، ولكنها من الخشب، فهي قطعة خشبية
طولها متران وعرضا سبعين سم، ولها ظهر يُستَنَد إليه كما لها مُتَّكأ على طرفيها
يتكئ عليه الجالس.
ولذا
فعندما خُتِنْتُ –وهو ثاني حدث أتذكره بنفسي- أجلسوني على "الماجور"،
وهو وعاء كبير تصنع فيه المرأة عجينها، فإذا قُلِب كان بوسع الطفل الجلوس عليه، ثم
جاء حلاق القرية، والذي هو في نفس الوقت طبيبها ومعالجها ومسعفها، وهو الذي ختنني،
ولم يكن ثمة وسيلة من وسائل التخدير، بل يداعبني فإذا غافلني قطع قطعة من هذه
الجلدة التي تغطي الحشفة، فأصرخ صراخا شديدا، ثم يهدئني ويغافلني ثم يقطع قطعة
أخرى فأصرخ، وهكذا، حتى تم الأمر بين صراخي الشديد من هذا الألم القاسي. فهذان
الموقفان هما ما أتذكرهما بنفسي، وكانا عند الرابعة لأن والدتي كانت تقول بأن عمري
أربع سنوات، ولا أتذكر قبل هذه السن أي شيء.
عندما
كنت في الخامسة أو السادسة بدأت في الذهاب إلى الكُتَّاب، وكان شيخه الشيخ بسطاوي
هو من يُحَفِّظنا القرآن، وكان رجلا طيبا وصالحا، ولم يكن لدينا شيء من وسائل الكتابة
بل كنا نكتب على الأرض، ثم ظهرت الألواح فيما بعد حين كنت في التاسعة أو العاشرة،
كانت من الخشب فكنا نكتب عليها بقلم من البوص أو نحوه يُبَلَّل في الحبر، ثم
نمسحها بمادة طينية نسميها "الطَّفْلة"، أما هذه الأقلام فلم تكن معروفة
لنا قط، ولعل هذا يُصَوِّر إلى أي حدٍّ كانت الحياة حينذاك شديدة الصعوبة.
في
زمن الكتابة على الأرض كان الحفظ يعتمد على السماع فقط، يظل الشيخ يردد الآية حتى
تستقر في رأس الطفل، وفي اليوم التالي يقرأ الطفل على الشيخ ما حفظه ثم يسمع
الجديد، وهكذا. وفي تلك الفترة حفظت ربع القرآن الأخير منذ نهاية حتى سورة يس.
لم
أذهب إلى المدرسة الابتدائية، كانت أقرب مدرسة تبعد عن قريتنا بخمسة كيلومترات،
ولم يكن من وسيلة للذهاب إليها، وكان أبي وأمي يخافان عليَّ أن أذهب وحدي، وأظن أن
قريتي كلها لم يكن يذهب منها أحد في سني هذا إلى المدرسة. وهكذا فالكُتَّاب هو
المدرسة الوحيدة في القرية، ولهذا فإن أهلها لا يعرفون القراءة والكتابة إلا بصورة
بسيطة.
كذلك
لم تكن القرية متدينة، كان كبار السن يصلُّون، وكان إلى جوار منزلنا مسجد
"أبو الحمد"، وكان فيه تابوت الشيخ "أبو الحمد"، ولهذا الشيخ
قصة لعلي أرويها لاحقا في وقتها. وهذا البُعد عن الدين كان سببه الأكبر قطعا
الحقبة الناصرية، فلقد كانت شديدة في تغييب الدين ليس فقط عن قريتنا بل عن مصر
كلها، ولكني لم أدرك تأثير عبد الناصر على المجتمع المصري إلا وأنا في الثانية
عشرة من عمري.
كانت
نساء القرية لا يعرفن الشارع إلا قليلا، من أولئك القليل التي تذهب إلى السوق، وهي
التي لا عائل لها، كان الرجال يقومون بكل شيء، وكان الحمار وسيلة النقل الوحيدة،
فمن لديه حمار فهو يذهب ويجيئ به داخل القرية أو خارجها، وكانت المدينة تبعد عنا
ثلاثة أو أربعة كيلو مترات، فكان الرجل إذا أراد أن يتسوق أو يشتري ما ليس يوجد في
القرية يمتطي حماره ويقطع تلك المسافة. كذلك فقد كانت مياه الشرب منعدمة في
قريتنا، وكانت النساء يذهبن ليملأن مياه الشرب من ترعة بعيدة على مسافة 2 كيلومتر،
كنَّ يعتبرنها نقية، فالعادة حينئذ أن تأتي النساء بالماء لغرض العجين والخبيز،
فتلك مسؤوليتهن، ولم يكن في ذلك الوقت أفران مثل اليوم، فلقد كان الخبز يصنع في
البيوت، فتحمل النساء الجرَّة وتملأها من الترعة، والجرَّة تزن نحو الخمس أو الست
كيلو جرامات من المياه. وأما الطبخ والغسل ونحوه فكن يستعملن الطُلُمبَّة، وهي
مضخة يدوية تُخرج المياه الجوفية، وكانت النساء ترى أن ماء الترعة أعذب وأصفى من
المياه الجوفية، ولقد كان منزل جدي كبيرا، فهو عمدة القرية، وكانت فيه طُلُمْبتان.
ما
كانت أمي تلد الأطفال إلا ويموتون، ولما تكرر هذا نصحها بعض أهل القرية أن تذهب
إلى السادة الرفاعية، وأولئك هم أتباع طريقة صوفية تعرف بالرفاعية، وظنَّت أمي
أنها إن أسمت المولود الجديد رفاعي أو رفاعية فإن هذا ينجيهما من الموت، وهو ما
كان فعلا، فلما رُزِقت بأختي الكبرى أسمتها "رفاعية"، ثم لما وُلِدت
بعدها أسمتني "رفاعي"، ثم لتختر فيما بعد ما تشاء من الأسماء، وكان لأختي
الكبرى اسم آخر هو "عدلية".
عاشت
"رفاعية" أو "عدلية" ست سنوات أو سبع، ثم توفيت، وعشت أنا إلى
هذا اليوم، وسُمِّيت باسمي هذا "رفاعي"، ثم جاءت بعدي أخت سميت
"روحية" إلا أن والدي كان يحب المغنية شادية فأطلق عليها هذا الاسم، فهي
في الأوراق الرسمية "روحية" ولكنها في الواقع "شادية"!
في
ذلك الوقت كان أبي يعمل تاجر حديد خردة، ويسمى هذا "مقاول حديد خردة"،
يجتمع النفر من هؤلاء المقاولين فيشترون الحديد الخردة إما من مخلفات المصانع أو المباني
أو ما يجمعه الناس، إذ يمرُّ عليهم صاحب حمار وينادي على من كان لديه حديد يشتريه
منه، فكان الناس يبيعونه ما لديهم من مخلفات الحديد كقائم للسرير، فلقد كانت
الأسرة في ذلك الزمن تُصنع من الحديد، أو "الناموسية" التي تظلل سرير
العروس، وهي من الحديد أيضا، أو الأواني التي تكون من الحديد أو الألومنيوم، ونحو
هذا. وكان الغالب في عملية البيع والشراء المقايضة، فلقد كان وجود النقود محدودا
جدا آنذاك، فيشترى الرجل قطعة الحديد مقابل ثلاث بيضات أو كمية من الغلال والحبوب،
أو ربما أتى بأشياء جديدة مثل "شبشب" أو نحوه، وكان مصنع سكر أرمنت بدأ
بالعمل حديثا تلك الأيام، فكانوا يأخذون مخلفاته أيضا، وكان أبي يعتبر من أعيان البلد
لأن هذه الأشياء كانت ثمينة في ذلك الوقت. ثم في مرحلة لاحقة بلغه أن مركز إدفو
التابع لمحافظة أسوان سينشئ مصنعا جديدا، فعزم على الانتقال إلى هناك، لعلمه أن
المصانع في بدايتها تخلف كثيرا من كمايات الحديد، وهو ما كان، وظل يعمل هناك في
موقع نشاطه الجديد إلى أن عزم على نقل الأسرة معه إلى هناك. وكان والدي أول رجل من
قريتنا يغترب عنها، وهو اغتراب داخلي بسيط، ومع ذلك فأهل القرية اعتبروها غربة
كبيرة فاجتمعوا وأخذوا في البكاء، وهذا إنما هو لانعدام وسائل الاتصال في ذلك
الوقت.
لم أعرف الراديو إلا في السنة الخامسة الابتدائية،
فقد كنا نزور قريتنا كل سنة أو كل ثمانية أشهر إذ نعود إليها من مكان استقرارنا
الجديد في مركز إدفو، وفي تلك الزيارة كان جدي قد اشترى واحدا، وكان جهازا ضخما
حينئذ، حوالي 70 سم × 50 سم، ولما رأيته يتكلم سألت جدي باستغراب: ما هذا؟ فقال:
هذا راديو، وكان بعض الناس يتصورون أن المذيع قابع بداخل الراديو ويستغربون كيف
يُحمل معه، لكن أغلب الناس كانوا يسخرون ويتندون من هؤلاء، يقولون: ألم تسمع عن
الزمان الذي سيتكلم فيه الحديد؟! ها هو قد جاء وتكلم الحديد!
نشر في مجلة كلمة حق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق