ليس
ثمة سؤال يواجهه كاتب أو متحدث اليوم أكثر من سؤال: ما العمل؟!
سؤال
ينسال في التعليقات على كل منشور، يقال بعد كل خطبة، يثار بعد كل محاضرة، يلقي في
كل ندوة ومجلس.. جمهرة الناس في حال من التيه والفراغ والحيرة، والكل يسأل: ما
العمل؟!
على
الجانب الآخر تنظر في كل ثغرة تحتاجها الأمة فتجد فراغا رهيبا، بداية من ثغور
الجهاد التي تشكو قلة المال وقلة الرجال، وحتى ثغور العلم الشرعي التي تشكو ندرة
الفقهاء المتمرسين.. مرورا بسائر ثغور العلوم الطبيعية والجمعيات الخيرية
والمؤسسات الاقتصادية والمبادرات الأخلاقية. في أي موقع رأيت بعض العاملين
المخلصين فسألتهم عن أحوالهم وإمكانياتهم بالنسبة إلى المسؤوليات الملقاة على
عاتقهم كانت الإجابة كاشفة عن الفارق الواسع بين المتاح والمطلوب فضلا عن المأمول.
وهكذا
نحن في مشهد غريب: جيوش من الناس يسألون: ما العمل؟ وثغور فارغة تشكو وتتشوق
للعاملين!!
هو
أثر طبيعي لغياب الخلافة والخليفة، فالقيادة تستطيع تجنيد الموارد وتوجيه الطاقات
وجمع المتفرق، بل مجرد وجودها يجعل من أراد العمل يقصدها بتقديم ما يستطيع، أما
غياب القيادة فشرٌّ وبيل، إذ هو تفرق وتشرذم وعداوات تندلع لأتفه سبب ثم هو –وهذا
هو الأهم في سياقنا الآن- تيه وفراغ حتى لمن أراد أن يعمل، إذ لا يعرف ماذا يعمل
ومن أين يبدأ وإلى أين يتوجه مع كثرة الثغور وكثرة التحديات والحاجات والضرورات.
لهذا حرص الإسلام على أن ينتظم شأن المسلمين في أقل أمورهم "إذا كنتم ثلاثة
في سفر فأَمِّروا واحدا"، وكان هذا بداية خروجهم من الجاهلية والفوضى إلى
معنى الأمة والنظام والدولة والحضارة.
لكن
غياب القيادة العامة للأمة، وانهيار كثير من المشاريع والجماعات التي حاولت أن
تكون طلائع بعث الأمة ليس هو نهاية المطاف، ولا هو داعية يأس مع قسوته ومرارته، بل
نحن في وضع يجب علينا أن نكافح عن الإسلام في الخطوط الأخيرة، فالهجمة الآن هي على
الثوابت الكبرى، من كان يصدق أن يتجادل مسلمان في مسألة: هل يدخل الملحد النار؟!
كما وقع عند موت ستيفن هوكينج!
نعود
إلى السؤال: ما العمل؟!
لقد
وزع الله المواهب كما وزع الأرزاق، وإجابة السؤال يعرفها كل إنسان في نفسه من
نفسه. وحيث أن الثغور كلها تشكو الندرة في العاملين فلا يكاد يوجد مسلم إلا
ويستطيع أن يفعل شيئا يصب في النهاية لمصلحة الأمة، لكن المهم الآن هو التركيز على
"واجب الوقت" إذ الواجبات كثيرة كثيرة حتى حين كانت الأمة في ذروة
قوتها.. وواجب الوقت الآن هو معركة تحرير الأمة من الاستبداد والاحتلال، وكلاهما
في عصرنا هذا شيء واحد: الاستبداد هو مقدمة الاحتلال، والاحتلال هو العمق
الاستراتيجي والسند الأكبر للاستبداد. وأي مجهود يُصرف في غير معركة التحرير هذه
فهو أقرب إلى الهباء، بل لعله يكون إثما.
أمور
كثيرة تحتاجها معركة التحرير هذه، سأضع منها هنا أمورا في غاية الأهمية رغم أنه
يمكن الحصول عليها بسهولة وبلا مخاطر أيضا.
1.
المعلومات
ما
يعرفه أعداء الحركات الإسلامية عنها أكثر مما يعرفه أفرادها عنها، ولو تصورنا
مصارعة بين مصارع قوي لكنه مغمى العينين وآخر ضعيف ولكنه مبصر لكانت الغلبة للضعيف
المبصر، فكيف لو كان الحال أن القوي هو المبصر والضعيف هو المغمى العينين؟! ذلك
مثل الحركات الإسلامية وحركات المقاومة والحركات الثورية مع أعدائها.. هناك فارق
ضخم في المعلومات. وهذا سبب كثير من تجارب الفشل، تخوض الحركة الإسلامية أو
الثورية معركة وهي لا تعرف عدوها من صديقها، لا تعرف حتى بعض الاختراقات التي تجري
في صفوفها، لا تعرف مفاصل النظام الذي تواجهه، لا تعرف –مثلا- من هم أهم خمسين
شخصية فيه؟ أين يقع أهم خمسين مكان يشهد الاجتماعات المؤثرة أو على الأقل ما أهم
خمسين موقعا ينبغي السيطرة عليه أو حراسته أو مراقبة من يتردد عليه؟ ما هي خريطة
القوى الاقتصادية والسياسية التي تتحكم في صناعة القرار؟ ما خريطة الأجنحة داخل
أروقة السلطة وما الخلافات التي بينهم وكيف يديرون معركتهم ... إلخ!
مثلا:
ما هي أهم المناطق التي إن اشتعلت أدى هذا إلى ثورة في عموم القطر؟ كيف يمكن إشعال
ثورة فيها؟ ما هي احتياطات النظام لمواجهة حركة ثورية مقاومة في لحظات الطوارئ،
كيف يمكن فهمها واكتشافها؟ من الذي يمكن أن ينحاز إلى الثورة في لحظة ما بالترغيب
أو الترهيب، وكيف يمكن أن يُساوَم أو يُجَنَّد أو يُسقط؟
أمور
كثيرة للغاية، وقد تكون كلها معروفة أو مكشوفة لكن كل معلومة منها عن واحد فحسب
ولا يحتاج الأمر إلا إلى الجمع والتصنيف. تثور أحيانا فكرة صناعة منصة ثورية على
الانترنت ليضع كل من يعرف معلومة يحتمل أنها مهمة معلومته عليها، ثم يتولى فريق
التصنيف والتحليل والفلترة لإزالة المعلومات المشوشة والمغلوطة والمبالغ فيها
ونحوه.
2.
ابتكارات علمية
مع
التقدير الكامل لأن حالة البحث العلمي منهارة في بلادنا، وأن أمر إيجاد ابتكار
علمي متعثر ومتعسر أيضا، إلا أن أصل أي ابتكار علمي هو كونه "فكرة"،
والفكرة يفتح الله بها على من يشاء من عباده، ولعل رجلا في زاوية ما من الأرض يجد
ويسعى حتى يرى الله منه الصدق فيفتح عليه بشيء بسيط لكنه يغير الموازين.
إن
بين أمتنا وأعدائها فجوة علمية هائلة، وتظهر هذه الفجوة بقوة في مسألة كالطيران
والسلاح الكيميائي التي نرى آثارها في سوريا وفي كل منطقة تكاد تخرج فيها الأمة عن
هيمنة النظام العالمي، حينئذ لا يملك المقاتلون على الأرض مهما كانت بسالتهم أن
يفعلوا شيئا.. تلك النقطة تحتاج سعيا وبذلا هائلا على مستوى التفكير لدى المتخصصين
في الطيران والهندسة والاتصالات والكيمياء لا أقول ليهاجموا بل فقط ليعيدوا توازن
الردع بين أي حالة مقاومة وثورة وبين الاستبداد المسنود بالاحتلال.
وكلما
كان الابتكار العلمي سهل التنفيذ سهل الانتشار كلما كان أقوى وأفضل، لأن كل ما من
شأنه أن يكون بسيطا ومنتشرا بين أفراد الأمة كانت الأمة في حاجته أكثر.. لأن دخول
الأمة كلها في معركة التحرير هو خطوة لا بد منها في كل حال.. بل إن تاريخ هزيمة
الأمة هو تاريخ انفصال طليعتها الثورية المقاومة عن عموم الجماهير، وهذا الانفصال
هو الأمر الذي توصي تقارير المراكز البحثية الغربية بتوسيعه وتعزيزه وتأكيده لكي
يسهل على العدو سحق الثورة والمقاومة، التي هي بالنسبة للأمة كالسمك بالنسبة
للماء.. إن انفصل عنها هلك وصِيد.
3.
ترجمات
يقع
على المترجمين عبء هائل، ودورهم ضروري لا غنى للأمة عنه. إن الإنتاج الغربي في
العلوم الأمنية والعسكرية ومكافحة التمرد (أي: الثورات وحركات مقاومة الاحتلال
والاستبداد) إنتاج ضخم، وأقل القليل منه هو ما ترجم إلى العربية، بل إنهم ترجموا
بعضه إلى العربية بأنفسهم ليكون مرشدا لضباط الأمن والعسكر العرب.. ولا شك أن بعضه
سري غير منشور، لكن المنشور فيه فوائد كثيرة للغاية، وبعضه يدرس في الجامعات الغربية
التي هي من مصانع إنتاج الساسة وصناع القرار ومستشاريهم.
ثمة
نهر كبير ينتظر الترجمة من التقارير التي تصدرها وكالات الأمن والاستخبارات ومن
تقارير باحثين متخصصين في مكافحة الإسلاميين (ربما يندهش البعض إن عرف أن ثمة تخصص
في أمريكا اسمه "تدجين الإسلاميين"، رأيت هذا في السيرة الذاتية لأنجيل
راباسا الذي كتب تقرير راند 2008م: صعود الإسلام السياسي في تركيا) ومن مذكرات
العسكريين والأمنيين والسياسيين الذين أداروا معركتهم في أرضنا وبلادنا التي
احتلوها كما في أفغانستان والعراق وغيرها.. هذا فضلا عن وثائق المخابرات التي تنشر
بعد رفع السرية عنها بعد عشرين أو ثلاثين أو خمسين سنة بحسب قوانين النشر وأهمية
الوثيقة.
ولا
يقتصر الأمر على الترجمة من الإنجليزية وحدها.. الفرنسية والألمانية وحتى الروسية
والصينية، ففي تلك البلاد تحديات أخرى ومدارس أخرى وأفكار أخرى، وبعضها تتطلع لتكون
قوة عظمى ولترسم لنفسها النفوذ والمستقبل والاستراتيجية، وظهر فيها منظرون سياسيون
وقيادات عسكرية وأمنية خاضت حروبا ومعارك إما مع المسلمين كما في تركستان الشرقية
والشيشان وكشمير أو مع غيرهم في محيطهم الاستراتيجي.
تلال
هائلة من الكتب القيمة التي تنتظر الترجمة، والتي يتوقع أن تكون ترجمتها مثيرة
لأفكار قوية في النهوض والمقاومة فالحكمة ضالة المؤمن. وكثير من القيادات الثورية
والمقاومة ليس لديهم الإمكانية ولا الوقت ولا الطاقة لمتابعة المهم الذي يصدر في
لغته الأصلية.
المهم..
المهم.. المهم أن يُختار الكتاب بعناية لتكون أفكاره إضافة حقيقية لمعركة تحرير
الأمة.. إنه من المؤسف المثير للمرارة والشفقة والحسرة أن تكون غالبية الترجمات
روايات خيالية ومسرحيات وأشعار وأمور هي إن لم تضر فلن تنفع، وإن نفعت فنفعها ترف
يوجد ما هو أولى منه ألف ألف مرة! فإن الغريق والحريق والمسحوق لا يبحث في الترف
حتى ينجو من محنته أولا.
4.
ملخصات وفهرسة
فمن
لم يكن من أهل الترجمة، فليكن من أهل التلخيص أو من أهل الفهرسة، وهو أمر يستطيعه
كل من يجلس على الفيس بوك وتويتر ويوتيوب بالساعات الطوال لا يفعل شيئا مفيدا..
فكما نحن أمام كم هائل ينتظر الترجمة فإن لدينا كما هائلا من الكتب والمواد
المترجمة التي يتعذر الاستفادة منها لتنوعها وتشعبها وربما حجمها الكبير.
نحن
إذا كنا نتحدث عن مصر –كمثال- فإن الحركة الثورية في مصر يجب أن يكون لديها إلمام
بعدد من الأمور لكي تحسن خوض معركتها منها: العلوم الأمنية والعسكرية لا سيما ما
يتعلق بمصر وما كتبه صناع القرار والأمنيون الذين عملوا في مصر منذ نابليون وكرومر
ومايلز كوبلاند، طبيعة الشعب المصري وخصائصه، تاريخ حركات المقاومة لا سيما حركات
المقاومة في مصر نفسها، العلوم الاجتماعية التي تتعلق بإدارة ثورة كعلم الاجتماع
السياسي وعلم نفس الجماهير.
في
كل باب من هذه الأبواب توجد الكثير من الكتب والمؤلفات، حتى ما هو موجود باللغة
العربية.. ربما يضيق وقت العاملين في الثورة والمقاومة عنه، فيمكن لكثير من الشباب
الذين يسألون: ما العمل؟ أن يعكفوا على تلخيص هذه الكتب وإخراج خلاصاتها ليكون
فهمها أسهل وأسرع.
كذلك
مهمة الفهرسة.. وتلك مهمة تسهل على التنفيذيين الذين لا يحبون إرهاق عقولهم، إن
كثيرا من هذه الكتب تحتوي معلومات هامة، لكن عدم وجود فهارس فيها يجعل الاستفادة
منها متعذرة.. والفهرسة أمر يعرفه من طالع الكتب الشرعية، حيث يتولى محقق الكتاب
صناعة فهرس للآيات والأحاديث والأعلام (الشخصيات) والبلدان والمعارك.. ويتفنن
آخرون فيضيفون أنواعا كثيرة من الفهرسة. فإذا كان لدي كتاب من 30 مجلدا –مثلا-
وأردت أن أبحث عن اسم معين، فإن فهرس "الأعلام" يخبرني بالصفحات التي
ذكر فيها هذا الاسم، وبمراجعتها يتكون عندي بسرعة "رأي المؤلف في فلان هذا،
وكم مرة ذكره، وفي أي المسائل استشهد به... وأمور أخرى".. المهم أني لم اضطر
لقراءة الثلاثين مجلدا.
وكمثال:
لدينا الكثير من مذكرات صناع السياسة الأمريكية، ومترجمة أيضا، لكن الواحد منها لا
يقل عن خمسمائة صفحة.. وهي غير مفهرسة، وعلى سبيل المثال: لو أردت أن أفهم كيف
تعامل الأمريكان مع شخصية مثل السيستاني بعد احتلال العراق فينبغي علي قراءة
مذكرات المسؤولين صفحة صفحة: رامسفيلد وكونداليزا رايس وجورج تينت وديك تشيني وبريمر
وغيرهم.. بينما لو وُجد فهرس للأعلام لكل كتاب لكان يسيرا الاطلاع على مواضع
الصفحات ثم فهم الموقف.
مهمة
الفهرسة هذه مهمة عظيمة لو وُجِد لها الرجال.
الخلاصة:
العمل كثير كثير كثير.. والثغور كلها تشكو الحاجة.. وكثير من العمل يمكن أن يؤدى
بلا مخاطرة!
نعم،
ليس كل من هتف: ما العمل؟ سيعمل حين تأتيه الفرصة.. فإن ميدان القول غير ميدان
العمل! وقد قال المتنبي:
إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ .. تبيَّن من بكى ممن
تباكى
نشر في مجلة كلمة حق
رائع بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
ردحذفمقال جبار ...
ردحذفنفع الله المسلمين بهذا العلم
ردحذفمقال مفيد بحق، جزاك الله خيراً وأعاننا الله على العمل لهذه الأمة
ردحذفممكن مثال من الكتب الامنيه المترجمة للعربية.
ردحذفإقرأ كتب مركز الخطابي للدراسات
حذف