الجمعة، مايو 27، 2016

فصل السياسي عن الدعوي استسلام للعلمانية

لا ريب أن العبارات المراوغة لا تمثل حلاًّ بل هي جزء من المشكلة، ولا ريب كذلك أنه لا يمكن فصل قول القائل عن فكره ونهجه وعن سياق القول وظرفه وما يُراد به في الواقع! وراشد الغنوشي اليوم ليس مجرد مفكر أعجبه رأي فبحثه ثم تبناه بل هو زعيم حزب مشتبك في المشهد التونسي، بل هو الطرف المُصَوَّبة إليه السهام فيه، فكيف إذن ينبغي أن ننظر إلى فكرته في فصل الدعوي عن السياسي؟!

في هذا الموضوع لا بد من تثبيت بعض الأمور أولا:

1. أصل الخلاف بين الإسلام وبين العلمانية (ونموذجها التطبيقي: الدولة الحديثة) هو كون الإسلام نظاما متكاملا وليس مجرد دين بالمعنى الذي يفهمه الغربي، هو على نحو ما يقول المستشرق البريطاني المعروف هاملتون جب: "الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس"[1]، لذلك فإنه ينازع العلمانية مفهوم السيادة والمرجعية، بكل ما يتبع هذا من آثار علمية وعملية.

وحيث كنا في زمن استضعاف للأمة الإسلامية وهيمنة للنموذج العلماني، فإن فريقا من المنتسبين إلى الفكر الإسلامي أرادوا حل هذه الإشكالية بحشر الإسلام في مقياس ونظام الدولة الحديثة، وكان من أكثرهم تسارعا في هذا راشد الغنوشي الذي صدرت كتاباته تُلِحُّ على هذا المعنى، واستعان في هذا بكل ما وجده من آراء فقهية شاذة أو استعمال متكلف للأصول ثم استعمال متوسع بلا ضابط للمقاصد، ولما جاء إلى الحكم على ظهر ثورة شعبية، بدأ انحدار آخر متسارع في التنازلات فصار يلتمس لها أحكام الإكراه والاضطرار ولافتة المصالح والمفاسد، ثم لم يسعفه كل هذا فصدرت عنه الكثير من الآراء التي هي علمانية بامتياز ولم يتكلف أن يبحث لها عن "تبرير" شرعي!

لعل الكثيرين لا يعرفون أن الغنوشي بدأ حياته "جهاديا" بالتصنيف المتداول، وقد ذكره مؤرخ الجهاديين أبو مصعب السوري في كتابه "دعوة المقاومة الإسلامية العالمية"[2] ضمن التجارب الجهادية في القرن الماضي، ولا يزال الانترنت يحتفظ بتصريحاته القديمة، ورسالته التي يدين فيها ما فعله محفوظ نحناح في الجزائر من انحياز للعسكر ضد ديمقراطية جاءت بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، ثم صار يوصف بعدئذ بأنه "ديمقراطي بين الإسلاميين" كما هو عنوان كتاب لعزام التميمي عنه (صدر 2001م)، ثم طلَّق الديمقراطية بعد الثورة بحثا عن "التوافق" (والتوافق في حقيقته استبداد وديكتاتورية ونقيض للديمقراطية وتحكم للأقلية التي تملك المال والإعلام في رأي الأغلبية)، ولا يزال يتخلى عن مكتسبات الثورة.

الخلاصة: أن رجلا كهذا حين يتحدث عن "فكرة"، فضلا عن أن تكون فكرة فاصلة في مسيرة الحركة الإسلامية، فلا ينبغي أن تناقش كفكرة مجردة، بل كتبرير سياسي، لرجل تدل مسيرته على تنازلات مستمرة! وكم كان طريفا تعليق عزام التميمي نفسه على هذه الفكرة بقوله: "تتغير القيادة إذا أخفقت في تحقيق البرامج التي وعدت بها أما أن تبقى القيادات وتتغير البرامج والتوجهات وحتى الانتماءات، فهذا "إبداع" غير مسبوق"!

2. وحيث نحن نعيش في زمن استضعاف الأمة الإسلامية والهيمنة الغربية فلقد كان من آثار هذه الهيمنة الثقافية أن مطالب المراجعات لا تُوجَّه لغير الإسلاميين، فلكم صدرت بحوث وعقدت مؤتمرات ورُصِدت ساعات بث ودوريات تطالب الإسلاميين بمراجعة أفكارهم وتصوراتهم وصلاحيتها للحياة (كم مرة سمعت ألفاظ: الإسلاميون والديمقراطية؟!)، حتى أنه لو بُعث في دنيانا من لا يعرفها سيتخيل أن البلاد حكمها إسلاميون ففشلوا ثم حكمها علمانيون فنجحوا! فلذلك انشغلت الحالة الثقافية ببحث الفشل الإسلامي! ومما يزيد العجب أن الذين يسيطرون على هذه الحالة هم علمانيون في الجملة، ولا يكاد يوجد اختبار حرية أو ديمقراطية في بلد أحد منهم إلا وكان واقفا إلى جوار المستبد يفصل له النظريات والتبريرات!

لماذا لم يُطالب العلمانيون –وقد امتد حكمهم في أقل الأحوال لستين سنة، وبلغوا في أحيان أخرى قرنين من الزمان- بمراجعات تصوراتهم وأفكارهم التي أدت إلى هذا الفشل الذريع حتى صارت الأمة في أبأس حالاتها قاطبة عبر كل تاريخها؟!

يمكن قول الكثير في هذا الباب لكن المقام لا يتسع، لكن الذي يهمنا هنا هو أن الغنوشي نفسه والذي يمثل حالة واسعة من "التجاوب" مع مطلب المراجعات ووصل إلى حالة بعيدة في إثبات إمكانية خضوع الإسلام للديمقراطية والدولة الحديثة، نقول: هذا الشخص نفسه لم يلتفت إليه أحد بجدية لا من الغرب ولا في تونس، وظل في مكانه منفيا لا يستطيع العودة إلى بلده ولا يبلغ أكثر من كتابة المزيد من "المراجعات"، فلا مراجعاته غيرت وضعه السياسي ولا من طالبوه بها تقدموا خطوة تجاهه ردا على خطواته تجاههم!

لم يتغير وضع الغنوشي في عالم السياسة إلا عبر ثورة شعبية لا يجرؤ أحد أن يقول إنها متأثرة بأفكاره أو منطلقة منها، وهذا في حد ذاته درس لمن يتصور أن مزيدا من "المرونة الفكرية" قد يوصل إلى شيء في عالم السياسة.

3. أول ما يُقال في تسويق فكرة "فصل الدعوي عن السياسي" أن شمولية الإسلام لا تعني شمولية الجماعة، وأن التخصص مطلوب، وأن شيخ المسجد لا يجيد بالضرورة مهارة السياسي، وأن السياسي يتحرك دائما في إطار المباح الاجتهادي لا في أبواب الحرام والحلال فليس يشترط فيه أن يكون فقيها... إلخ!

لا بأس، سنعتبر جدلا أن هذا كله حق، لكن السؤال البديهي سيكون: من الذي ألزمكم من قبل بكل هذا؟ هل ألزم أحد حركة النهضة أن يمثلها في الوزارة أو المفاوضة شيخ مسجد؟ هل ألزمها أحد أن تعمل في البر والخير إلى جوار عمل السياسة؟ هل تعرض مرشحوهم لاختبارات فقهية قبل تقدمهم إلى الانتخابات؟!

إنه لم يكن في تاريخ الحركة الإسلامية من قال بهذا أبدا، والحركة التي أرادت أن تمثل الإسلام بشموله أرادت أن تفعل ذلك لأنها تصورت قدرتها على هذا لا لأن شمولية الإسلام تلزمها بالشمولية في كل شيء، وظلت الجماعات الإسلامية تعمل في جوانب دون غيرها ولم ينزع عنها أحد صفة الإسلامية لكونها لم تنشط في كل شيء، ولم يعاتب شيخ أنه قال: لا أفهم في هذا الجانب السياسي، كما لم يعاتب سياسي لأنه لا يعلم حكم الشرع في أمر لا يعرض له في عمله!

كل هذه من المناكفات والمراوغات والخداع، فمنذ كان الإسلام كانت تعاليمه قوية واضحة بضرورة تولية الأكفاء، وحفظ التاريخ عن المغيرة بن شعبة نصحه لعمر بن الخطاب "أما القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الضعيف فتقواه لنفسه وضعفه على المسلمين"، وعلى هذا جرى فقه تولية الولايات والوظائف في سائر المدونة الفقهية الإسلامية[3]، ولا ريب أن من يحسن الدعوة ليس بالضرورة يُحسن السياسة ولا العكس[4].

فلئن كانت بعض الجماعات صدَّرت غير المتأهل في مجال لا يحسنه فهذا خطأ في ميزان الإسلام، وفي ميزان أدبيات الحركة الإسلامية نفسها، ولا يحتاج تصحيح هذا الخطأ إلى "تجديد" أو "مرونة" فكرية جديدة، بل يحتاج إلى تطبيق الأصول نفسها، وتوظيف المواهب في بابها، والعمل بالصدق والإخلاص والتجرد وترك حظ الدنيا والنفس والشللية والمحسوبيات.

لهذا كله نقول: إن نداء فصل الدعوي عن الحزبي أو الديني عن السياسي ليس مراجعة فكرية ولا هو تصحيح مسار بل هو في هذه الظروف التي أحاطت به مجرد خطوة أخرى من خطوات الاستسلام للعلمانية، والقبول بالثوابت والمسلمات التي تفرضها الدولة القطرية الحديثة، ولهذا فإن أسوأ ما في الأمر أن يُسَوَّق باعتباره تجديدا فكريا أو حلا لمشكلة الحركات الإسلامية.





[1] هاملتون جب، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، بدون بيانات، ص9.
[2] أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، نسخة إلكترونية ص474، 475، 756 وما بعدها.
[3] انظر مقالات "فقه اختيار الرجال للأعمال": الجزء الأول، الثاني، الثالث، الرابع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق