وصل
بنا الحديث عن موجز تاريخ السياسة التركية –في سلسلة المقالات الماضية- إلى مرحلة
حزب العدالة والتنمية، فتناولنا قصة المؤسس،
وفريق المؤسسين، والخلاف مع زعيمهم أربكان، والرؤية الفكرية،
وتحديات التأسيس..
وفي هذا المقال نواصل استعراض التحديات التي قابلت حزب العدالة والتنمية أول أمره،
وقد بقي منها تحديان؛ الأول: القاعدة الشعبية التي استند إليها الحزب، والثاني:
تسويق نفسه في المناخ الإقليمي والدولي عند لحظة تأسيسه.
القاعدة الشعبية
صنع الحزب قاعدته الشعبية بالاستناد إلى شبكتيْن
مهمتيْن:
الأولى: الطريقة النقشبندية وهي أوسع وأقوى الطرق
الصوفية في تركيا ولها علاقات بالسياسيين منذ أوزال وحتى أردوغان[1]،
وكانت تمثل القاعدة والمدد الشعبي الدائم لكل الأحزاب الإسلامية[2].
والثانية: هي جماعة الخدمة بزعامة فتح الله كولن وهي
تنظيم دعوي يشبه في وجهه المعلن جماعات الدعوة والتبليغ في العالم الإسلامي التي
لا تهتم بالسياسة غير أنها تفوقت عليها بشبكات إعلامية وتعليمية قوية وواسعة داخل
وخارج تركيا وبأعضاء نافذين في كافة مؤسسات الدولة التركية، وهي تجديد لحركة سعيد
النورسي انبعثت في مناخ الازدهار الإسلامي في السبعينات ونمت نموا كبيرا في
الثمانينات حيث كان مناخ النظام العلماني يسمح بذلك لمواجهة اليسار والشيوعية، ثم
انطلقت في التسعينات مع انهيار الاتحاد السوفيتي وانفتاح الساحات الآسيوية
والبلقانية والعربية أمام المدّ الدعوي، وحيث عمَّ الفساد وضعفت قوة القانون كانت
جماعة كولن تقدم مناخا اقتصاديا قائما على الثقة والالتزام مما مكَّنَها من بناء
دوائر ومؤسسات اقتصادية يثق فيها المتعاملون معها[3]،
إلا أنها عملت بشكل براجماتي تماما في اختراقها لمؤسسات الدولة إذ لم يكن لديها
بأس في أن تنزع أي صفة أو مظهر إسلامي عمن يتبعها في جهاز الدولة.
تحديات الوضع الإقليمي والدولي
لم تكن الخطابات ولا البرامج ذات تأثير -بطبيعة الحال-
على فرقاء الداخل أو الخارج، وإنما ظلت ردود الأفعال كما هو المتوقع:
فأما داخل التيار الإسلامي، فلقد كانت التهمة الأبرز
للحزب هو خروجهم عن الزعيم الإسلامي الكبير نجم الدين أربكان، وسعيهم في شق الصف
الإسلامي وتمزيقه، ويجيب عبد الله جل: "لو كنا نحن السبب في انقسام الأعضاء
وتناحرهم وفي حمل هذا التناحر إلى المستقبل، فهل كنا لنجازف بتحمل المسؤولية على
هذا النحو؟ وهل يستحق الأمر هذا؟ إننا لو بقينا بلا أي رد فعل تجاه أخطاء قائمة
بدافع الخوف من تحمل المسؤولية لكان ذلك سيجعلنا في المستقبل أمام مسؤولية أكبر
وعناء أكثر"[4].
واتُّهِمُوا كذلك بأنهم تحولوا إلى نسخة علمانية إذ "باعوا تركيا للغرب
وطرحوا أنفسهم كنموذج الإسلام المُعَدَّل الذي تريده أمريكا وصاروا اللاعب الرئيسي
في موجة الليبرالية الجديدة، وأنهم على الحقيقة ثمرة من ثمرات انقلاب (1997م)[5]
في كسر التيار الإسلامي وتطويعه. وأمام هذه التهمة قال عبد الله غل: "إلى أي
مدى كان مفهوم هذه السياسة التي انغلقت لها ثلاثة أحزاب على مدار ثلاثين عاما
سيستمر؟ هذه السياسة التي لم تحصل أبدا على أي دعم انتظرته من الشعب، والتي لم
تستطع أيضا قراءة الاتجاه العام العالمي، وبالمناسبة لم تنجح في نقل ذلك إلى
تركيا"[6].
وأما بالنسبة للدولة العميقة وغلافها المدني من الأحزاب
السياسية فلم تر في حزب العدالة والتنمية "إلا ذئبا في فروة الأغنام، إذ
ينتهج نفس نهج الإسلام الراديكالي تحت قناع الإخلاص للسياسة الأوروبية"[7].
لكن الموقف الأهم من كل هذا هو الموقف الدولي، فلقد كان
النظام العالمي الجديد –نظام القطب الواحد المتكون بعد انهيار الاتحاد السوفيتي-
يعيش في ذلك الوقت أعظم لحظات قوته وشراسته أيضا بعد أحداث سبتمبر 2011 وانطلاق
الجيوش الأمريكية لتغيير الأنظمة بالقوة المسلحة، كما أن الهيمنة الغربية على
السياسة التركية قديمٌ قِدَم عُمْر الجمهورية نفسها، وليس بوسع سياسي إلا أن يجد
طريقه للتعامل معها.
ولقد زاد من صعوبة الموقف تلك اللحظة الزمنية التي وُلِد
فيها الحزب، فلقد كانت شديدة التعقيد؛ فأبرز أحداثها: الانتفاضة الفلسطينية (28
سبتمبر 2000م) التي استمرت لخمس سنوات على الأقل وما تطرحه من سجال الانتماء
الإسلامي للحزب في مقابل العلاقة التركية المتينة مع إسرائيل، ثم أحداث (11 سبتمبر
2001م) وما طرحته من تداعيات الحرب على الإرهاب "الإسلامي" وما أسفرت
عنه من حروب كالحرب على أفغانستان (أكتوبر 2001م) وكَوْن تركيا عضوا في حلف
الناتو، والحرب على العراق (مارس 2003م) المجاور لتركيا مع تأثيراته الواسعة على
تركيا وملف الأكراد. وكان يُنتَظَر من الحزب أن يقدم في كل هذه الملفات مواقف
عملية تحظى بالرضا الغربي أولا، ثم تفسير هذه المواقف وترويجها شعبيا أمام جمهور
"إسلامي" وقوى داخلية "علمانية".
قام الحزب بجولات خارجية في مساريْن: المسار الاقتصادي
المسؤول عنه باباجان والذي سبقت الإشارة إليه، والمسار السياسي الذي تولاه أردوغان
حيث قام بسبع عشرة رحلة خارجية شملت الدول الأربعة عشر أعضاء الاتحاد الأوروبي
بالإضافة إلى أمريكا وروسيا والصين، بالإضافة لزيارة أخرى لكازاخستان من دول آسيا
الوسطى[8]
وهي زيارة تؤشر إلى اهتمام مبكر بالعمق التركي مع امتداداته العرقية. وكانت
الزيارات بغرض التسويق السياسي للحزب الذي يوشك على إمساك السلطة أو أمسكها
بالفعل، وتقديم مواقف في هذه القضايا، ومن البديهي أن يكون الحزب الجديد الناشئ هو
الطرف الأضعف.
لا نحسب أنه بالإمكان الآن الحصول على معلومات بشأن ما
دار في هذه اللقاءات، إلا أن المواقف المعلنة كانت السير بتؤدة وتمهل وبغير تغيير
في السياسة الخارجية، فبرغم الانتفاضة لم يبادر إلى إلغاء العلاقة مع إسرائيل ولا
إلى دعم المقاومة الفلسطينية وإنما حاول –بعد سنوات- الدخول في الملف كوسيط،
واستمرت القوات التركية في مهمتها كعضو للناتو في أفغانستان، وخرج من مأزق العراق
بحل وسط هو السماح باستخدام قاعدة إنجلريك دون استخدام الأراضي التركية في الحرب
على العراق[9]،
وظل موقفه من الملف الكردي كما هو ملف الدولة الكمالية ولكن بنكهة أوزال[10].
وأيا ما كان الخلاف على تفسير هذه المواقف وتقييمها، فالثابت أن الحزب قد قدَّم
نفسه كنموذج لإسلام "معتدل" (أو: ديمقراطية محافظة) يمكنه الالتقاء مع
مصالح الغرب وأهدافه، فيوفر بديلا أفضل لديكتاتورية تنتج "الإرهاب" أو
لديمقراطية تأتي بالإسلاميين "المتشددين"، وكان يُنتظر منه إثبات هذا
بالمواقف بعد تقديمها كوعود وضمانات.
ولقد ظلَّ الحزب محلَّ اختبار ومحلَّ شكٍّ غربيًّا
لسنوات طوال[11]،
إلا أن القراءة العامة لسياسة الحزب تكشف أنه استهدف تحويل كل تهديد إلى فرصة؛ فمن
ذلك:
1. أنه استثمر حالة ما بعد 11 سبتمبر ليقدَّم نفسه بوصفه
الإسلام المعتدل الذي ينافي التطرف والإرهاب والذي يمكن التلاقي معه بشأن قيم
الديمقراطية والحريات وعلمانية الدولة والليبرالية الاقتصادية ومن ثمَّ يجب دعمه
وإسناده للتقليل من حالة التطرف ولإثبات أن الغرب لا يعادي الإسلام كدين أو
المسلمين كأمة[12].
2.
أنه استثمر الرغبة القديمة المقيمة للسياسة التركية في الانضمام للاتحاد الأوروبي
للقيام بإصلاحات هيكلية في مجال الحقوق والحريات التي تتيح فرصة أوسع لرفع المظالم
عن الأكراد والأقليات من ناحية[13]،
ومن ناحية أخرى تدعم تقليم أظافر "الدولة العميقة" وفي القلب منها:
العسكر التركي[14]،
ونقد روايتهم ورؤيتهم للهوية والتاريخ التركي[15].
3. أنه استثمر
الرفض الغربي في الانضمام للاتحاد الأوروبي في فتح آفاق نفوذ وتأثير واسعة مع دول
الشرق الآسيوي والشرق الأوسط، مما يساهم في الابتعاد التدريجي التركي عن
"الهوية الغربية"[16]، كما يساهم في إنشاء خرائط سياسية جديدة تنكمش فيها القوة الأوروبية
والأمريكية[17].
وهكذا لم يبق أمام الحزب
إلا خوض الانتخابات البرلمانية القادمة، وهو الأمر الذي ستساعده فيه الظروف بما لم
يكن يتوقع، وهو ما نعرض له في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في تركيا بوست
[2] Rabasa, Larrabee:
The Rise of Political Islam, p. 14; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 638.
[5] كِرِم
أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص195 (تصريح لمحمد بكر أوغلو من حزب السعادة بتاريخ 13
يوليو 2009م)؛ Kenan Çayır: The emergence of
Turkey’s contemporary ‘Muslim democrats’, in: Ümit Cizer: “Secular and Islamic
Politics in Turkey”, p. 63.
[10] لئن كانت
الأيام قد كشفت كثيرا من توجهات حزب العدالة والتنمية على هذه الملفات، إلا أننا
الآن نسوق المواقف كما كانت في بدايتها عند تلك اللحظة.
[11] Rabasa, Larrabee:
The Rise of Political Islam, p. iii, xiii, 1, 3, 4, 31; Lesser: Turkey:
“Recessed” Islamic Politics, p. 175.
[13] كِرِم
أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص192، 205، 212 وما بعدها؛ Aydin,
Çakır: Political Islam in Turkey, p. 3.
[14] Rabasa, Larrabee:
The Rise of Political Islam, p. xv, 2, 47; Lesser: Turkey: “Recessed” Islamic
Politics, p. 175; Ömer Taspinar: Turkey’s Middle East Policies, p. 13.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق