لا يعرف التاريخَ من يشبه العسكر في عصرنا هذا بالمماليك
في عصرهم، وقد بدأنا في المقال السابق حديثا عن رفع هذا الظلم عن المماليك، وتناولنا فيه الفارق بين العسكر الآن
وبين المماليك في ثلاث أمور هي: حدود البلاد، الولاء للأمة، الحرب والجهاد. ورأينا
كيف أن الفارق بينهما كما بين السماء والأرض، وكما بين الذل والمجد.
وبقي أن نشير إلى ثلاثة مجالات أخرى، لعل ذلك يزيد توضيح
الصورة.
(4) الحالة العلمية
أشهر الأسماء العلمية في
العالم الإسلامي إنما عاشوا في زمن المماليك، وهذه بعض أمثلة سريعة: العز بن عبد
السلام، النووي، وابن منظور، والقلقشندي، وابن تيمية، المزي، ابن دقيق العيد، ابن
القيم، الذهبي، ابن كثير، ابن رجب الحنبلي، الشاطبي، المقريزي، ابن تغري بردي، ابن
خلدون، ابن حجر العسقلاني، السيوطي، السخاوي.
وأشهر الموسوعات العلمية
في سائر العلوم الإسلامية وعامة تحريرات المذاهب الفقهية إنما ألفت في زمان
المماليك، فمنها في التاريخ: تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء كلاهما للذهبي، ومنها
في الرجال: الكمال في أسماء الرجال للمزي مع إكماله وتهذيبه وتذهيبه واختصاره، ومنها
في الحديث: فتح الباري لابن حجر، ومنها في اللغة: لسان العرب لابن منظور، ومنها في
الكتابة: صبح الأعشى للقلقشندي، ومنها في الأدب: نهاية الأرب للنويري، ومنها في
تاريخ الطب: عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة... والأمثلة تطول جدا!
ومن أدل ما في شأن الحالة
العلمية في ذلك العصر، ذلك الذي قاله ابن تيمية: "ليس عند أهل الكتاب فضيلة علمية
وعملية إلا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منهم فيها. فأما العلوم: فهم أحذق -في
جميع العلوم- من جميع الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية، ولا أخروية، كعلم الطب -مثلا-
والحساب، ونحو ذلك، هم أحذق فيها من الأمتين، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين،
بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم"[1].
وإلى نهاية عصر المماليك،
الذي هو أحط فترات حكمهم، لا نعدم علما قائما في بلادهم يأتي إليه الطلاب من
أوروبا نفسها، وقد روى الجبرتي أخبار ذلك في تاريخه، بل وشهد عدد من الغربيين أن
مصر كانت على وشك نهضة لولا أن أوقفتها الحملة الفرنسية[2].
صحيح أن المماليك لم
يكونوا أهل علم وإنما كانوا أهل حكم، لكنهم لم يقفوا في وجه العلماء فلم يعطلوا
العلم ولم يحاربوه كما يفعل عسكر هذا العصر الذين لا ينبغ في بلادهم أحد، بل إنما
ينبغ من تركها ورحل إلى خارج حكمهم، ولا تجد العلماء إلا في الزنازين أو على
المشانق.
(5) الآثار العمرانية
من زار القاهرة ودمشق
ومتاحفهما يعرف بديع ما وصلت إليه العمارة والفنون الإسلامية في عصر المماليك، وفي
القاهرة المسماة بمدينة الألف مئذنة لا تجد قبة تشبه القبة الأخرى في زخارفها، ولا
مئذنة تشبه أخرى، ولا منبرا يشبه آخر، هذا مع انتشار المدارس والبيمارستانات
(المستشفيات) التي كانت آية عصرها في حسن العمارة والترتيب والنظام، حتى وصف عصر
المماليك بأنه العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
ولقد تفاجأ ابن خلدون
عندما وصل القاهرة بما رآه فيها، رغم أنه كان وزيرا قبل ذلك في المغرب والأندلس، وسجَّل
ذلك مشدوها بقوله: "فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومَدْرَج
الذرّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوِّه، وتزهر
الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضئ البدور والكواكب من علمائه... تزخر بالنعم،
ومازلنا نتحدث بهذا البلد وبُعْدِ مداه في العمران واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات
من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجِّهم وتاجرهم في الحديث عنه؛ سألت صاحبنا كبير الجماعة
بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقرى فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من
لم يرها لم يعرف عز الإسلام"[3].
فأين هذا من عسكر ليست لهم
مأثرة في بناء أو عمارة، بل استلموا البلاد وهي أجمل مدن الشرق، ثم تركوها يُضرب
بها المثل في الفوضى والقذارة والخراب؟! رغم أنهم استلموها من احتلال أجنبي
وحكموها بشعار وشرعية "التحرر والاستقلال الوطني"!!
(6) المآثر الحضارية
يتنازع المؤرخون مسألة المماليك والحضارة،
يتهمهم البعض بأنهم كانوا نكبة على الحضارة ولا يوافقهم على هذا آخرون، ولسنا الآن
بمقام الفصل في هذا النزاع، ولكن في مقام ذكر ما اتفقوا عليه.
ولقد اتفق المؤرخون
والرحالة على سعة القاهرة المملوكية وعظمتها واتساعها وجمالها الأخاذ، وتفننوا في
وصف سحرها الذي خلب الألباب، وإنما تنازعوا في مقدار ذلك: هل تساوي باريس في
العظمة والاتساع[4] أم أنها ثلاثة أضعافها[5] أم أنها خمسة أضعافها[6] أم أنها سبعة أضعافها[7]! بالإضافة إلى ثمانية آلاف ينقلون الماء من النيل ويبيعونه لرشه في
الطرقات وتسكين الغبار يوميا، وفي تلك القاهرة لا أحد يمشي على رجله بل الكل يركب
الخيل والبغال، وفي القاهرة لا يكاد يطبخ أحد في بيته بل يعتمدون على ثلاثين ألف
مطعم منتشرة في أرجائها، والتي كان فيها (قبل خمسة قرون) أفران صناعية لتفريخ
الكتاكيت[8]!!
ولقد كانت القاهرة مركز
التجارة العالمي في عصر المماليك تزخر بالدور والقصور والحدائق، ويشبهها الرحالة
بفينيسيا حين يأتيها الفيضان ويرون أنها أكبر من ميلانو بست مرات! ويعتقد ستانلي
لين بول أن القاهرة هي المدينة التي تخيلها كُتَّاب ألف ليلة وليلة[9]!
فهل يفكر أحد الآن في
القاهرة التي استلمها العسكر وهي أجمل مدن الشرق ثم لا تزداد معهم إلا سوءا وقبحا
وفوضى وانهيارا في كل المجالات؟!
ونختم بمثل طريف، فمن
مآثر المماليك الحضارية: المستشفى المنصوري التي بناها المنصور قلاوون، وهي أعجوبة
عصرها، وكما وصفها المستشرق الفرنسي الشهير جومار "كان يدخله كل المرضى فقراء
وأغنياء بدون تمييز، وكان يجلب إليه الأطباء من مختلف جهات الشرق ويجزل لهم
العطاء... ويقال إن كل مريض كانت نفقاته في كل يوم دينارا، وكان له شخصان يقومان
بخدمته، وكان المؤَرَّقون من المرضى يُعْزَلون في قاعة منفردة يشنفون فيها آذانهم
بسماع ألحان الموسيقى الشجية أو يتسلون باستماع القصص يلقيها عليهم القُصَّاص...
وكانت تمثل أمامهم الروايات المضحكة، وكان يُعطى لكل مريض حين خروجه من المارستان
خمس قطع من الذهب حتى لا يضطر إلى الالتجاء إلى العمل الشاق في الحال"[10].
فهل صنع العسكر في بلادنا
شيئا كهذا بعد ثمانية قرون؟!
لا ريب أن مقارنة العسكر
الآن بالمماليك ظلم عظيم!
[4] أفوقاي
الأندلسي، رحلة أفوقاي الأندلسي، تحرير: د. محمد رزوق، ط1 (بيروت: المؤسسة
العربية للدراسات والنشر، 2004م)، ص52.
[5] محمد عبد
الستار عثمان، المدينة الإسلامية، سلسلة عالم المعرفة، 128، (الكويت:
المجلس الأعلى للثقافة والآداب والفنون، أغسطس 1988م)، ص181. (وهو ينقل عن:
الرحالة الفرنسي جيهان تود)
[6] أحمد عادل
كمال، أطلس تاريخ القاهرة، (القاهرة: دار السلام، 2004م)، ص126. (وهو ينقل
عن نشرة إنجليزية مطبوعة مع خريطة للقاهرة رسمت عام 972هـ = 1574م).
[7] أولج
فولكف، القاهرة: مدينة ألف ليلة وليلة، ترجمة: أحمد صليحة، (القاهرة:
الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م)، ص96.
[9] ستانلي
لين بول، سيرة القاهرة، ترجمة: د. حسن إبراهيم حسن وآخران، ط2 (القاهرة:
مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ) ص220.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق