وصلنا في استعراضنا لتاريخ السياسة التركية –في المقالات
الماضية- إلى لحظة تأسيس حزب العدالة والتنمية، وبعد أن ذكرنا قصة المؤسس أردوغان، وقصة الخلاف بينه وبين أستاذه أربكان، وألقينا نظرة على المؤسسين، ندلف إلى تحديات التأسيس!
كغيره من الأحزاب، واجه حزب العدالة والتنمية تحديات
التأسيس: الرؤية الفكرية، الكوادر، البرنامج، الأموال. وكان عليه أن يعبر هذه
التحديات في ظل واقع تتنازعه التوجهات؛ إذ هو يحتاج أن يثبت عدم تخليه عن الإسلام
داخل بيئة التيار الإسلامي، ويحتاج أن يثبت أنه لم يخرج عن علمانية الجمهورية أمام
الدولة العميقة، ويحتاج أن يثبت أنه صورة جديدة من "الإسلام السياسي"
الذي يمكن للغرب أن يتفق معه وأن يجربه ويعتمد عليه، وكأنه يقدم "إسلاما
جديدا" ملتزما بالثوابت التي تطرحها "الحضارة الغربية". ولم يكن
بوسعه تقديم خطاب مزدوج في عصر ثورة الإعلام والاتصالات، فلا مناص حينئذ من خطاب
دقيق ومتوازن، ثم من تنازلات وتضحيات ببعض الأطراف عند لحظات فارقة لا بد فيها من
الاختيار حين لا ينفع التوازن والبقاء في منطقة رمادية.
بدأت المجموعة المؤسسة بإقامة مركزين للبحوث السياسية
والفكرية: الأول مركز مؤسسة دنجه للأبحاث في أنقره والثاني مركز الأبحاث السياسية
في اسطنبول[1]،
نوقشت فيهما –كما قال عبد الله جل- "جميع الأفكار دون تحفظ، بحثنا كيف نشكل
حركة تجديد وإصلاح، واستعنا في سبيل ذلك بأصدقاء من الخارج لهم تجربة جيدة من أجل
الوصول لتصور واضح لحركتنا الجديدة"، ويرى بولنت أرينتش أن "أهم عوامل
نجاح تلك المرحلة أننا لم نقص أي فكرة من النقاش أو الحوار، كان عملا جماعيا بكل
ما في الكلمة من معنى"[2].
لئن كانت الرؤية الفكرية أصعب شيء في تأسيس الأحزاب
والجماعات والكيانات السياسية؛ إذ ينبني عليها سائر التوجهات والاختيارات، فلقد
كانت في حالة حزب العدالة والتنمية أصعب؛ فالحزب تتنازعه جذوره الإسلامية مع ثوابت
الدولة العلمانية التي يحرسها العسكر بقوة السلاح، وهذا كله تحت مظلة وضع دولي
يثير حربا على "الإرهاب الإسلامي" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهذه
الحرب على وشك أن تشتعل عند أطراف الثوب التركي: العراق!
لقد أثار الأمر خلافا بين المؤسسين، لكنهم خلصوا في
النهاية إلى هذه الهوية ذات المساحات الرمادية، ولذا فمن أراد رؤيتهم كإسلاميين
وَجَدَ في أدبياتهم ما يدعم خطه، ومن أراد رؤيتهم كعلمانيين وجد ما يدعم خطه، ومن
أراد إثبات ما في خطابهم من ارتباك وتناقض وجد ما أراد كذلك، ويعلن كثير من الباحثين[3]
أنهم نمط جديد ويجتهدون في ابتكار مصطلحات تعبر عنه.
يبدو أردوغان إسلاميا عثمانيا يطرح نفسه كنقيض للحقبة
الجمهورية العلمانية حين يقول في خطاب تأسيس الحزب (14 أغسطس 2001م) "تركيا
لنا جميعا. إن تركيا منذ عام 1299م إلى عام 1923 كانت دائما تتولد منا نحن"[4].
ولكن يبدو مُنَظِّر الحزب، المفكر التركي أحمد أوزجان،
متناقضا حين يقول في مرحلة التأسيس: "تركيا يجب أن تتخطى صراع الهيمنة
والسيطرة الموجود بين الكتلة المسالمة والكتلة الكمالية. وعلى إنسان الأناضول أيضا
أن يفرض على الساحة كادره الذي يُمَكّنه أن يحوي كلا الطرفين بداخله، والذي يخاطب
الشعب بأكمله، وله هويته الإسلامية الخالصة، والذي ينتج ويعلن تجلياته
الحقيقية"[5].
وهنا يبدو ثمة تناقض واضح بين قوله "يحوي كلا الطرفين" وقوله
"هويته الإسلامية الخالصة". ومثل ذلك ما أورده مؤلفا "قصة
زعيم" عن رسالة من رجل أعمال إلى صديق له في الحزب كان يسعى بالصلح بين
أردوغان وأربكان، جاء فيها: "ما يلزمنا من الآن فصاعدا هو تشكيل حركة كتلة
جامعة توافقية، الكتلة الحقيقية وليس مجرد حركة زمرة فقط"[6].
وهو يقصد بالكتلة الحقيقية أي كتلة الشعب كله المسلم وغير المسلم المتدين وغير
المتدين، ويقصد بالزمرة: الزمرة الدينية.
ومن المفهوم في عالم السياسة الحفاظ على مساحة من
الغموض، كما في تصريح لعضو كبير بحزب العدالة والتنمية يقول: ليس المهم هو ما إذا
كان الإسلام يؤثر في السياسة، ولكن "كيف" يكون هذا التأثير، فالتفسير
الليبرالي للإسلام يؤثر في السياسة على نحو ليبرالي[7].
كما أنه من المفهوم في عالم الصراع الإقدام على تفريغ الكلمات من دلالاتها
المستقرة لتُطرح لها دلالات أخرى فيكون في هذا النجاة من سيف الرقيب المترصد
(اقرأ: معارك المصطلحات في الواقع الإسلامي)، وقد فعل الحزب هذا فجعل "من الشورى
ديمقراطية، ومن العلمانية حرية ومساواة، ومن المواطنة انتماءا وعطاءا، ومن الإجماع
دستورا"[8]،
وحين قَدَّم "مقاربة جديدة لمفهوم العلمانية، تعبر عن المضامين الصحيحة داخل
هذا المفهوم وتبعد عنها المضامين الأخرى، فهو لم يجعل من العلمانية الأوروبية
معياره ولا نموذجه ولا محرابه، ولم يجعل من العلمانيين الغربيين قدوته ولا أئمته
ولا وعاظه، وإنما فهم أن العلمانية هي أنها الدعوة إلى العلم وتحرير تفكير الإنسان
وعقله، ورفض الأفكار التي تلغي حرية الإنسان وتحرمه من عقله وتمنعه من اتباع العلم
واكتشاف الحياة وتسخيرها لمصلحة الإنسان والناس والبشرية جمعاء"[9].
لقد تمسك الحزب بإصرار –على مستوى الطرح الفكري- أنه
يمكن الجمع بين كل ما يُظَنُّ أنه متناقض كما يقول أردوغان: "أنا حزبي محافظ
ديمقراطي، محافظ أسعى للحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا وثقافة الأمة التركية، وأسعى
لتطبيق ديمقراطية قوية ومتطورة ولا تقل عن الديمقراطيات في العالم"[10]،
وكما يقول عبد الله جل: "ما نريد أن نقوله هو أن تركيا دولة مسلمة، وبالإضافة
إلى هويتها الإسلامية فإن تركيا دولة ديمقراطية وشفافة وعلى وفاق مع العالم"[11].
كذلك أصروا على أنهم ممثلي هذا التوفيق بين ما "اعْتُقِد" لفترة طويلة
أنه متنافر كما يقول بولنت أرينتش: "سنشكل نموذجا يحتذى في المنطقة في تطبيق
الديمقراطية وتوسيعها من خلال هويتنا الإسلامية[12]،
ومن ثَمَّ قدَّم الحزب "نفسه على أنه نصف ليبرالي، وإسلامي معتدل، ولكنه
ديمقراطي بالكامل"[13]،
باختصار: قدَّم نفسه على أنه حزب ديمقراطي محافظ ينتمي –بمصطلح التصنيف الحزبي-
إلى "يمين الوسط" الذي يأخذ من اليمين هوية ثقافية ومن اليسار ميولا
اقتصادية واجتماعية[14].
ولئن صَعُب على الكثيرين ابتلاع هذا التوجه وفهمه، فإن
الذي كان سهلا وواضحا وثابتا في رؤية الحزب وخطابه هو التخلي عن الخطاب المعادي
للغرب الذي تبناه الإسلاميون سابقا، وتبنى خطابا متسقا مع ما يُطرح في المجتمعات
الغربية[15]،
فلقد "أدركوا أنهم لن يستطيعوا تشكيل مستقبل البلاد إلا بإعادة النظر في
علاقتهم مع الإسلام، وبإعلان الالتزام بالنظام العلماني الجزئي للجمهورية التركية،
والتخلي عن الجوانب الأكثر ثورية في النزعة الإسلامية، وبخاصة فكرة "النظام
العالمي العادل" أي الدولة الإسلامية العالمية. وبالرغم من امتداد جذور
المؤسسين الأيديولوجية إلى الإسلام السياسي، فإن معرفتهم بالحكم الجيد والخدمات
العامة (التي اكتسبوها من عملهم في إدارة المجالس البلدية منذ التسعينيات) جعلتهم
براجماتيين وأقرب إلى ميراث حزب الوطن الأم بزعامة أوزال من الأيديولوجية
الإسلامية لأربكان. ومن ثَمَّ فإن نظرتهم المعولمة ورؤيتهم للإسلام كمُلْهِم أكثر
منه كهدف سياسي"[16].
وما كان واضحا بذات الدرجة أنهم نقيض للاستبداد واعتبروا
"ما يفعلونه بمثابة إحياء جديد لكل الأحزاب التي تم غلقها، وبمثابة عودة
الفكر الوطني و(عودة لمن قُهِروا) من السياسيين"[17].
لقد مثلت هذه الطريقة نمطا جديدا في السياسة التي يتصدرها إسلاميون، ما
جعلها مسرحا لابتكار الألفاظ والمصطلحات لدى الباحثين لمحاولة التعبير عن الظاهرة،
فوُصِفَت بأنها "سياسة مرتاحة" يمثل الدين فيها إلهاما ثقافيا أكثر منه
حضورا فاعلا في أجندة السياسة[18]،
وبأنها نسخة جديدة لإسلامية بلا إسلاميين[19]،
وبأنها سياسة "صديقة للإسلام"[20].
نشر في تركيا بوست
[3] كثير من الغموض أو الارتباك راجع أيضا إلى خلفيات الباحثين الفكرية، إذ
الكثير يفهم الديمقراطية كنقيض للإسلام بغير اعتبار لما أفاض الإسلاميون في شرحه
من تفريقهم بينها كفلسفة أو آليات، ونظرياتهم في تطبيق
الإسلام في العالم المعاصر.
[10] برنامج
تحت المجهر: "العثمانيون الجدد"، قناة الجزيرة، بث بتاريخ 26/7/2007؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 47.
[14] Rabasa, Larrabee:
The Rise of Political Islam, p. 50; Ümit Cizer: The Justice and Development
Party, making choices, revisions and reversals interactively, in: Ümit Cizer: “Secular
and Islamic Politics in Turkey”, (New York, Routledge, 2008), p. 3.
[15] Rabasa, Larrabee:
The Rise of Political Islam, p. xv; Aydin, Çakır: Political Islam in Turkey, p.
1.
[18] Ian o. Lesser: Turkey:
“Recessed” Islamic Politics and Convergence with the West, in Angel M. Rabasa
... [et al.] “The Muslim world after 9/11” (Santa Monica, RAND, 2004), p175.
[19]
Menderes Çınar, Burhanettin Duran: The specific evolution of contemporary
Political Islam in Turkey and its ‘difference’, in Ümit Cizer: “Secular and
Islamic Politics in Turkey”, p. 33.
[20]
Ümit Cizer: The Justice and Development Party, p. 2.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق