حين سحبت قطر سفيرها من مصر أصدر الأمين العام
لمجلس دول التعاون بيانا تضامنيا مع قطر، بدا وكأن القطريون هم من كتبوه لأنه يتشابه
حرفيا تقريبا مع البيان القطري. بعد ساعات قليلة خرج بيان آخر ينفي البيان الأول، مما
يدل على حجم الاضطراب في وضع دول الخليج.
الأهم من حجم الاضطراب في الموقف المصري هو قياس
وزن الموقف السعودي، فبمجمل الأوضاع يتوقع أن تكون السعودية الآن في إطار التصعيد ضد
نظام السيسي لعدة أسباب: التآمر على سلمان لإزاحته من ولاية العهد، التسريبات -التي
يُعتقد أنها خرجت بالأساس عن السعودية لتصفية رجال وسياسة عهد عبد الله- وأخيرا: الغزل
المتبادل بين الحوثيين والسيسي! واللهجة الجديدة مع الإخوان المسلمين.
لكن يبدو أن بيان النفي يشير إلى حالة الضعف
السعودي في التأثير على مواقف دول مجلس التعاون، وفي واقع الحال لن نكتشف على وجه اليقين
قدرة الملك الجديد على إحداث تغيير حقيقي قبل شهور، والمتوقع أن السعودية قادمة على
زلازل سياسية، لأن رسوخ سياسة ورجال الملك السابق عبر عشرين سنة لا يمكن إزالتها بسهولة!
على أن الأهم في هذه اللحظة هو ما يبدو أنه غروب
شمس القوة السعودية كلها، فالحوثي يثبت أقدامه ليكتمل الطوق الشيعي شمالا وشرقا وجنوبا
دون قدرة حقيقية على إيقاف هذا الاختناق!
فهل حان الآن غروب شمس آل سعود ليصبحوا نورويجا
جديدا كما توقع جون بركنز قبل اثني عشر عاما؟! وهي القراءة التي لا أعرف أحدا شاركه
فيها.
أصل القصة أن دولة بنما -في أمريكا اللاتينية،
وهي الشريط البري الواصل بين الأمريكتين- أخرجت الرئيس الوطني عمر توريخوس، هذا الرئيس
عمل جهده على تحرير قناة بنما -التي تمر في أراضيها لكنها خاضعة لسيطرة الأمريكان-
لتعود إلى سلطة الدولة، وإغلاق المدرسة الحربية الأمريكية التي تقع على ضفافها والتي
يتخرج فيها العسكريون الذين تبعون أمريكا ليحكموا بلادهم بالاستبداد، كما تتدرب فيها
فرق الموت.
خاض عمر توريخوس معارك سياسة مع أمريكا -مع الفارق
الضخم في القوة- واستطاع أن يتوصل إلى اتفاق مع كارتر لإعادة القناة وإغلاق المدرسة
العسكرية الأمريكية بعد أن هدد أنه ربما يضطر إلى تفجير سد جاتون لتتوقف الملاحة في
القناة، وعمل على حفر قناة جديدة بالتعاون مع اليابانيين.
المهم أنه استطاع أن يصل إلى نتائج استقلالية
ممتازة، لكن ريجان -الذي خلف كارتر- لم يرق له ما قد كان، فأصر على عودة الأمور كما
كانت، بالطبع كان هذا مستحيلا لدى توريخوس، فكانت نهايته بالاغتيال في تفجير طائرته
عام 1981.
وصعَّد الأمريكان من بعده عمليهم "نورويجا"
والذي كانت له خدمات سابقة جليلة للمخابرات الأمريكية. إلا أن السقف الذي ارتفع به
توريخوس لم يسمح لنورويجا أن يهبط به كله دفعة واحدة.. بينما سياسة ريجان لا تسمح بالمناورة
ولا حتى للحفاظ على عميلها بل أرادت أن تؤسس لنظام: إذا أمرت أمريكا فلا مجال إلا السمع
والطاعة.
لم يسمح ريجان بأي مرونة مع نورويجا، استعمل
القوة العسكرية، قصف بنما بالطائرات، واختطفوا نورويجا وحاكموه في أمريكا ليصير عبر
لكل رئيس دولة يتجرأ على مقاومة أمريكا ولو كان عميلا لهم.
نعود إلى السعودية..
جون بركنز نفسه يقول بأن العقود التي ربطت أمريكا
بالسعودية هي صفقة القرن الكبرى، وهي أغرب صفقة في التاريخ، ذلك أن السعوديين تنازلوا
عن كل أموالهم وربطوا مصيرهم تماما بالأمريكان ليحصلوا على الحماية الأمريكية.. وأن
دولتهم ارتبطت هيكليا وتقنيا في سائر التفاصيل بالأمريكان حتى لم يعد لهم منها فكاك،
ثم وضعوا أرباح نفطهم بيد الأمريكان مقابل أن يظلوا في السلطة.. وروى في هذا تفاصيل
تثير المرارة.. حتى إن الاستشاريين الأمريكان كانوا يعتبرون السعودية "البقرة
التي نستطيع حلبها حتى نبلغ سن التقاعد"
الجديد الذي تفرد به بركنز هو أنه رأى في غزو
العراق تغييرا أمريكيا في قواعد اللعبة يشير إلى التخلي عن آل سعود، وذلك مثلما حدث
مع عمليهم البنمي نورويجا، ذلك أن سيطرة الأمريكان على نفط العراق تجعلهم لا يحتاجون
السعودية بأي معنى من المعاني.. ولذلك فحيث ضمنوا ارتباط السعودية التام بهم، فلا بأس
من أن يقايضوا على السعودية نفسها مع لاعب جديد ربما يكون إيران.. وبالطبع لن يستطيع
السعوديون فعل شيء لأنهم فقدوا بالفعل كافة أوراق القوة.
هذا الكلام الذي قيل قبل 12 عاما يفسر ذلك التهافت
الكامل من الملك السابق على الأمريكان إلى الحد الذي تطوع فيه بمحاربه الإسلاميين في
كل مكان (وهم حلفاؤه الطبيعيون، ومخزونه الاستراتيجي، وممثلوا شرعيته التاريخية)، بل
وتطوع فيه بدعم الحوثيين (وهم أعداؤه والتهديد المباشر له وذراع عدوه التاريخي: إيران).
لكن الأخطر منه الآن: أنه قد يفسر هذا الضعف
السعودي الحالي الذي لا يملك حمل دول مجلس التعاون على موقف يساند قطر ضد السيسي (حليف
الحوثي، وأحد أطراف المؤامرة على الملك الحالي لما كان ولي عهد، والصاعد إلى مكانه
بأموال السعوديين ودعمهم السياسي والإعلامي)!
وهكذا كما نُقض الاتفاق مع توريخوس فجاءوا بنورويجا
لضربه، ثم نقض الاتفاق مع نورويجا ولم تشفع له خدماته فسجن وحوكم باتفاق مع آخر.. يكون
قد نقض اتفاق الحماية مع آل سعود واستعملوا في ضرب الإسلاميين والجهاديين ثم جاء الموعد
مع اتفاق آخر يعيد تشكيل خريطة السياسة في جزيرة العرب!
ومن ثم فليس أمام آل سعود إلا دعم الإسلاميين
والجهاديين في اليمن وسوريا والعراق وفي الداخل لكسر الطوق الشيعي وإضعاف أذرعه واستعادة
بعض أوراق القوة التي تبقي على الاتفاق القديم.. لكن السؤال هنا: هل يستطيعون حقا؟
أم أن الوقت قد فات.. وجاء وقت الفتن والمعارك والملاحم؟!!
نشر في رصد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق