ثار أهل المدينة على يزيد بن معاوية، وتزعَّم
هذه الثورة عبد الله بن مطيع وعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ومحمد بن عمرو بن حزم
ومجموعة أخرى من فقهاء المدينة، فيما عارضها آخرون كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس
ومحمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وسعيد بن
المسيب، وأخرج الثوَّار والي المدينة الأموي عثمان بن محمد بن أبي سفيان كما حاصروا
بني أمية فيها، ثم طردوهم عنها، فأرسل إليهم يزيد بن معاوية جيشًا بقيادة مسلم بن عقبة
المري، وحاول الجيش الأموي إنهاء الأمور بالتفاهم والأمان فلم يُفلح؛ فنشبت المعركة
المعروفة في التاريخ باسم «موقعة الحرة»، وفيها انهزم أهل المدينة .. وليت الأمر توقَّف
هاهنا! ولكن جيش مسلم بن عقبة استباح المدينة ثلاثة، فنهبها وانتهك حرمتها، وأجبر المنهزمين
على البيعة ليزيد باعتبارهم عبيدًا له، غير أن الجيش لم يرتكب ما نسبته إليه الروايات
الشيعية من تهمة انتهاك الأعراض واغتصاب بنات المدينة وما سوى ذلك من الكفر القبيح،
إلَّا أنَّ انتهاك حرمة المدينة واستباحتها وانتهابها وإذلال أهلها كان من الكبائر
التي اقترفها يزيد بن معاوية وقائد جيشه مسلم بن عقبة.
وكما حرَّك استشهاد الحسين وما يُقال عن يزيد
أهل المدينة، فإن هذا -إضافة إلى ما وقع في الحرة- قد حرَّك ثورة أخرى في مكة، تزعَّمها
بعض الصحابة والتابعين: كعبد الله بن الزبير، والمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان
بن أمية، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، لقد بدا في ذلك الوقت بما لا يدع مجالًا للشك
أن انتقال الخلافة من الشورى إلى الملك العضوض؛ إنما سيُؤدِّي إلى الطغيان والتجبر
والفساد وانتهاك محارم الله -حتى ولو كان ابن بنت رسول الله- وحرمة مدينة رسول الله،
ولا شك أن استدعاء الأحداث وقتها ومعايشتها سيُفضي إلى هذه النتيجة بشكل لا لبس فيه،
فهذا أول خليفة وصلته الخلافة بالوراثة يتجرَّأ على مثل هذه الكبائر، فمِنْ ثَمَّ كان
لا بد من محاولة لإعادة الأمر إلى نصابه، وإعادة الخليفة إلى الشورى.
ولمرَّة أخرى فشل يزيد بن معاوية في إنهاء الأمر
سلميًّا عبر الرسائل والوفود، فوَجَّه سريتين إحداهما بقيادة عمرو بن الزبير (أخي عبد
الله بن الزبير)، فهُزِمتا خارج مكة، ثم جيشًا بقيادة الحصين بن نمير السكوني، فكان
ابن الزبير ينهزم بسهولة ويفقد في كل يوم خيرة أصحابه؛ حتى لم يَعُدْ أمامه إلَّا أن
ينسحب ويلجأ إلى البيت الحرام بعدما فقد كل مواقعه، ومع استمرار حصار ابن الزبير وضربه
بالمجانيق؛ أضيفت كارثة ثالثة لعهد يزيد بن معاوية وهي احتراق جزء من الكعبة اختلف
الرواة هل هو من تطاير نار في معسكر ابن الزبير أم من أثر الضرب بالمجانيق،
والاحتمال الأول أكبر، لكن أيا ما كان الأمر فإن احتراق شيء من الكعبة هو بطبيعة الحال
أمر لم يقصده أحد لا من أهل الشام ولا من أتباع ابن الزبير، ولكنها الحادثة التي اهتزَّ
لها المعسكران .. وما هو إلَّا أنَّ وصلت الأخبار بموت يزيد بن معاوية (أول ربيع الآخر
64هـ)، وكان قد مات (15 من ربيع الأول 64هـ) وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، وهنا
دخلت ثورة مكة منعطفًا جديدًا؛ إذ اقترح الحصين بن نمير قائد جيش يزيد على عبد الله
بن الزبير أن يسارع بالمناداة إلى نفسه خليفة، وأن يمضي معه إلى الشام فيأخذ البيعة؛
فهو أحق المسلمين بها.
أمَّا أن يزيد بن معاوية قد أخطأ وارتكب عظائم
فهذا ما لا يمكن أن يُنكره أحد، وأما أنه يتحمَّل كل المسئولية فهذا ما لا نُوافق عليه؛
فهذه الثورات التي انطلقت إليه ما كان منها ثورة واحدة قد استكملت أسبابها؛ بل كلها
كان ينهزم بأقلِّ المجهود، ثم إن تحصُّنهم في المدينة وفي مكة، واتخاذهم حرم الله حرمًا
لهم وهم يثورون؛ فهذا ما أوقع في الحرج، فما كان بإمكان يزيد أن يتركهم في ثورتهم،
ولا هو نجح في ردِّهم ولا التصالح معهم بالكتب والوفود، ولا كان لهم قوَّة على مواجهة
يزيد؛ فضلًا عن حكم الأُمَّة كلها.. ولسنا الآن نوزِّع المسئوليات والأخطاء، فالجميع
بين يدي الله تعالى وهو أعلم بهم وهو أحكم الحاكمين، ولكننا ننظر فيما عرفناه من التاريخ
لنعتبر ونتعلم، بإنصاف لا يعتريه هوى!
لم يرضَ عبد الله بن الزبير بالخروج إلى الشام
كما قال له الحصين بن نمير، ولعلَّه خشي إلَّا يرضى به أهل الشام، وأما أهل الشام فقد
بايعوا بعد يزيد ولدَه معاوية بن يزيد، وكان صالحًا وضعيفًا ومريضًا، فلم تستمرُّ أيامه
إلَّا ثلاثة أشهر على أقصى تقدير، وفيها خلع نفسه، وترك الخلافة للناس يولون عليهم
مَنْ أرادوا، وما لبث بعدها أن مات، وهو في حدود العشرين من عمره، أو أكثر من ذلك قليلًا.
لم يتفق أهل الشام على خليفة، وبايعت الأمصار
لعبد الله بن الزبير، وكاد أهل الشام والأمويون أنفسهم أن يبايعوا ابن الزبير بالخلافة
في مكة، وتزعَّم هذا الضحاك بن قيس أمير دمشق، وأوشك أن يفعله مروان بن الحكم كبير
بني أمية، لولا اعتراض قبائل اليمانية بزعامة حسان بن مالك، الذين رفضوا أن يصير الأمر
إلى غير الأمويين، وستُثبت تطورات الأحداث أن بني أمية كانوا هم عصبة العرب وأقوى البيوت
فيها، وأنهم -لهذا- هم الأقدر على ممارسة الخلافة، وهو ما ذهب إليه معاوية -رضي الله
عنه- من قبلُ، وعامَّة الصحابة والتابعين الذين وافقوا على البيعة ليزيد ونصحوا الحسين
بعدم الخروج، كما لم يُوافقوا على ثورة المدينة، ولا ثورة عبد الله بن الزبير، ستُثبت
الأحداث أن هذه النظرة كانت هي الأصح.
فهذا عبد الله بن الزبير بايعته الأمصار جميعًا،
ولم يبقَ خارجًا عن سلطته إلَّا الشام، الذي يعاني هو نفسه من الانقسام بين طائفة تُريده
وطائفة تُريد بقاء الأمر في الأمويين وتُؤَيِّد مروان بن الحكم، ويبدو الأمر كما لو
أن مؤيديه أكبر من مؤيدي مروان بن الحكم، وهكذا صار ابن الزبير الخليفة الشرعي للمسلمين.
إلَّا أن الأمور لم تجتمع لابن الزبير بشكل كامل؛
إذ رفض ابن عمر أن يُبايعه لأن الناس في فرقة ولم يجتمعوا عليه، كذلك لم يُبايعه ابن
عباس، وانتهى الأمر بخروجه من مكة إلى الطائف، وكذلك محمد بن الحنفية، ثم ثار المختار
بن أبي عبيد الثقفي في الكوفة وسيطر عليها، وهو من الخوارج المنحرفين، الذين رفعوا
شعار آل البيت، واتخذ المختار محمد بن الحنفية إمامًا، لكن محمدًا تبرَّأ منه ومما
يدعو إليه، وقد لا نجد عملًا كبيرًا لعبد الله بن الزبير في خلافته، إلَّا حرب المختار
بن أبي عبيد وقتله (67هـ) على يد أخيه مصعب بن الزبير، الذي ولاه أمر العراق.
وفي العراق، ثم في الشام، ثم في الحجاز جرت أحداث لم يكن أحد ليتوقعها في ذلك الوقت مهما اتسع خياله.. وذلك ما نعرض إليه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق