بعد الحديث عن بدايات علم الاستغراب[1]
في التاريخ الحديث، وعن رائده الأول رفاعة
الطهطاوي، يأتي الحديث عن الرجل الثاني: خير الدين
التونسي.
ولد في قرية قوقازية ثم اختطف إلى اسطنبول
كما كان شائعا في ذلك الوقت، وكان من حسن حظه أن استقر أمره عند الباي أحمد حاكم
تونس، فتلقى هناك التربية الدينية والعسكرية وأتقن الفرنسية، ورأى فيه الباي من
النبوغ والنجابة ما دعاه إلى أن يستعمل هذه المواهب، فعهد إليه بإدارة المدرسة العسكرية،
ثم صار موضع ثقته فاختاره سفيرا له في مهمة خاصة إلى فرنسا (1852م)، فبقي بها أربع
سنوات، ثم عاد فعُيِّن وزيرا للبحرية وكان رئيس مجلس الشورى وعضوا في لجنة دستور
1860م، وأرسله الباي سفيرا إلى اسطنبول أكثر من مرة في مهمات سياسية كبرى (1859،
1864، 1871م)، رغم ما وقع بينهما من خلافات أدت لاستقالته من الوزارة (1862م)، إذ
كان خير الدين يريد تقييد سلطة الباي طبقا لرؤيته الإصلاحية، لكن الباي اضطر
للاستعانة به مرة أخرى وزيرا للداخلية والمالية والخارجية ثم رئيسا للوزراء
(1873م)، واستغل هذه السلطة في تدشين حركة إصلاحية واسعة إلا أنه لم يستطع موازنة
الضغوط الخارجية الثلاثية الأطراف: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، مع ضعف تونس وصغر
حجمها ومواردها، فكانت فرصة للباي الناقم عليه تقييد سلطانه، فذهبت عنه الوزارة
بعد أربع سنوات (1877م)، لكن لم تمضِ أشهر حتى كان خير الدين قد استقر في الأستانة
التي يحكمها السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان قد قرأ كتاب خير الدين "أقوم
المسالك" وأعجب به، فعينه صدرا أعظم (رئيس وزراء)، ثم لم يمض العام حتى كان
عبد الحميد يقصيه (1879م) لذات الأسباب التي أقصي بسببها في تونس، فعاش في شبه
عزلة حتى وفاته التي جاءته بعد عشرين سنة من هذا التاريخ (1899م)[2].
وبخلاف الطهطاوي البعيد نسبيا عن دوائر
السلطة والغزير الإنتاج، كان خير الدين مشتبكا مع السلطة وليس له إلا هذا الكتاب
الوحيد "أقوم المسالك في معرفة الممالك"، بخلاف وثائقه ومذكراته التي
نشرت بعد موته. ويحلو للباحثين أن يجمعوا بينه وبين ابن خلدون من حيث اتفاقهما في
الأصل التونسي والتقلبات السياسية التي جرت عليهما وفي طريقة تصنيف الكتاب (مقدمة
فيها الخلاصة، ثم سرد) وفي العزلة التي صُنِّف فيها الكتابان.
لكن ما يجمعه بالطهطاوي كثير، أهمها هو تلك
النظرة الفاحصة للغرب والتي تؤكد على أهمية التعلم مما وصلوا إليه دون أخذ ما
عندهم من ضلالات، وأن هذا الفصل بين الأمرين ممكن وسهل، وأن مفتاحه في السياسة
والتربية (والتربية تشمل التعليم في مصطلحهما)، وقد كان موقع الرجلين من السلطة
مما وجه نظرهما إلى التركيز على ما ينبغي أخذه للانتفاع به في الشرق، لذا لن تجد
كثير تركيز على أمور أقل أهمية كالفنون والآداب والأشعار الغربية وما هو من
خصوصياتهم. فكانوا أكثر اهتماما بما ينفع وأقل اهتماما بالنقد وإبراز المعايب، على
عكس الرحالة الذين عاشوا مطلع القرن التاسع عشر، وذاقوا طعم الغرب كمحتل[3].
ومثل الطهطاوي كان خير الدين يرى أن التفوق
الغربي راجع في أصله إلى النظام السياسي، حتى لقد افتتح كتابه بقوله: "سبحان
من جعل من نتائج العدل العمران"[4]،
وعدد مجالات التقدم ثم أردف "وأساس جميع ذلك حسن الإمارة"[5]،
"ولا سبب لما ذكرناه إلا تقدم الإفرنج في المعارف الناتجة عن التنظيمات
المؤسسة على العدل والحرية"[6].
وصرح أن سبب نكبتنا يؤول إلى: الأمراء
والعلماء، إذ "لا يظهر لملوكها سبب قوي في الامتناع (عن الإصلاح) إلا حب
الاستبداد الموصل للشهوات"[7]،
"مع إغفال العلماء القيام بما أهلهم الله له بإعراضهم عن مقتضيات أحوال
الوقت"[8].
وحمل خير الدين على العلماء الذين يعتزلون معارك الحياة، فساءه أن يرى
"الموكول لأمانتهم مراعاة أحوال الوقت في تنزيل الأحكام، معرضين عن استكشاف
الحوادث الداخلية، وأذهانهم عن معرفة الخارجية خليَّة"[9]،
وهاجم نهيهم عن الأخذ عن الغرب بإطلاق وشدد على أن "الأمر إذا كان صادرا من
غيرنا، وكان صوابا موافقا للأدلة، لا سيما إذا كنا عليه وأُخِذ من أيدينا، فلا وجه
لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله"[10]،
وأطال في سرد الأدلة على هذا من القرآن والسنة وأقوال أهل العلم[11].
وشدد في عدد من المواضع على أن الأخذ بالعلوم
يعود على السياسة بالقوة، فبالعلوم "نَمَتْ نتائج الأيدي واتسعت دوائر
مُتَّجَر الإنجليز وثروتهم وارتفع شأن السياسة"[12]،
فكأنما أراد بذلك أن يطمئن ذوي السلطة على أن إصلاح السياسة لا يعود عليهم بالضعف
وقلة النفوذ كما يتوهمون، بل بالقوة واتساع النفوذ. كما شدد على أن الشورى لا تعني
في حقيقتها تضييقا على صاحب السلطان وإنما هي تحقيق لمصلحته ومصلحة البلاد
والعباد، كصاحب البستان الذي إذا استمع لمشورة الخبراء في الزرع والبيع والرعاية
لم يكن ذلك تضييقا عليه وإنما نفع له[13].
وكان خير الدين منتبها إلى مآل هذه الفجوة العلمية،
وهو احتلال البلاد الإسلامية، فكأنه يصرخ وهو يقول: "ولا يخفى أن البقاء على
هذه الحالة مما يعظم خطره وتُخشى عواقبه، سمعت من بعض أعيان أوروبا ما معناه أن
التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره
المتتابع، فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا أخذوه
وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق"[14].
ونادى بالحل، وأنه في الشورى التي أمر الله
بها رسوله مع وجود الوحي لتكون "سنة واجبة على الحكام بعده"[15]،
واجتماع الأمراء بالعلماء وأخذ كل منهم عن الآخر، "فرجال السياسة يدركون
المصالح ومناشئ الضرر، والعلماء يطبقون العمل بمقتضاها على أصول الشريعة، وأنت إذا
أحطت خبرا بما قررناه علمت أن مخالطة العلماء لرجال السياسة بقصد التعاضد على
القصد المذكور من أهم الواجبات شرعا لعموم المصلحة وشدة مدخلية الخلطة المذكورة في
اطلاع العلماء على الحوادث التي تتوقف إدارة الشريعة على معرفتها"[16].
وأكد على أن الأمة تملك ما يميزها، إذ إن
الشريعة الإسلامية هي "اللائقة بكل زمان"[17] وهي
"كافلة بمصالح الدارين"[18]،
وأنها "لا تنسخها تقلبات الدهور"[19]،
وأن الأمة كانت سابقة "التقدم في مضماري العرفان والعمران، وقت نفوذ الشريعة
في أحوالها، ونسخ سائر التصرفات بمنوالها"[20].
وأن "الغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الأوروباوية إلى ما هي عليه من
المنعة والسلطة الدنيوية، أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقا، ولنصوص شريعتنا
مساعدا وموافقا"[21].
وفي مجال السياسة كان خير الدين أقوى وأكثر
صراحة من الطهطاوي، وإن اعتُذِر للطهطاوي بوجود الجبار محمد علي بينما لم يواجه
خير الدين سلطانا له كل هذا الطغيان.
نشر في نون بوست
[1] راجع:
[2] انظر في ترجمة
خير الدين التونسي وآثاره: ألبرت حوراني: الفكر العربي ص109 وما بعدها، فنديك: اكتفاء
القنوع بما هو مطبوع ص414، عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين 4/133، وانظر مقدمة د. محمد
الحداد للطبعة الجديدة من كتاب "أقوم المسالك" ص23 وما بعدها (ط دار الكتاب
المصري ودار الكتاب اللبناني).
[3] برغم أن الطهطاوي كان في
فرنسا وقت احتلالها للجزائر إلا أننا لا نجد له حديثا في الموضوع، ولا ندري هل هذا
لقلة المعلومات لديه عما أحدثوه في الجزائر؟ أم لأنه لم يشأ أن يغضب محمد علي ذا
العلاقات القوية مع الفرنسيين؟ أم لأنه كتب رحلته في بلادهم فخشي منهم ثم لم تسعفه
الظروف –أو لم يشأ- أن يغير في الرحلة بعد ذلك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق