اقرأ أولا:
وفي الشام أسفرت الأمور عن اختيار أهل القوة
والعصبة من أهل الشام لمروان بن الحكم ومبايعته خليفة، ثم دارت حرب بين مروان بن الحكم
وبين أنصار ابن الزبير بقيادة الضحاك بن قيس الفهري في مرج راهط (في ذي الحجة 64هـ)،
انتصر فيها مروان بن الحكم بعد قتال شديد، واستقرَّ له أمر الشام، ثم بدأ في ضمِّ البلاد
إليه؛ فبدأ بمصر التي دخلت في سلطانه بسهولة، ثم عهد بالولاية من بعده لابنه عبد الملك،
ثم لعبد العزيز، ولا شكَّ في هذه اللحظة أنه كان مقتنعًا إلى النهاية بأن ولاية العهد
هي التي تمنع الفتن والانقسامات والتنافس على الخلافة، فما زال الأمر مضطربًا منذ أن
انفرط عقد الشام بموت يزيد بن معاوية، ثم خلع معاوية بن يزيد نفسَه، ثم ما لبث أن مات
(رمضان 65هـ) بعد تسعة أشهر فقط في الحكم، وتولَّى بعده ابنه عبد الملك بن مروان.
والمتابع لتاريخ الفترة يتعجَّب من خلوِّ مشهد
الشام من عبد الله بن الزبير، الذي اعتمد كلية على أنصاره في الشام، ولم يُجَيِّش معهم
الجنود، ولا أرسل إليهم الدعم للقضاء على المعارضة هناك، كذلك خرجت مصر من بين يديه
بسهولة، وسنرى بعدئذٍ أن البلاد ظلَّت تتساقط من بين يديه على ما كان متحقِّقًا له
من اجتماع الكلمة؛ فيما استطاع بنو أمية أن يستعيدوا ملكهم كاملًا مرَّة أخرى؛ بل وأن
يُوَسِّعوه أضعافًا على الرغم مما وقع في الشام من فرقة وانقسام .. في دلالة فارقة
على أن بني أمية كانوا الأصلح للخلافة في هذا الوقت؛ بما امتلكوه من عصبة وتوحد، وبما
نشأ فيهم من شخصيات قوية حازمة واسعة السياسة وبعيدة النظر.
تولَّى عبد الملك بن مروان الأمر وليس بيده إلَّا
الشام ومصر -وكان من كبار العلماء والفقهاء في وقته[1]-
فكان المؤسس الثاني لملك بني أمية، فعبد الملك شخصية قوية بارعة نجيبة إلى الحدِّ الذي
ولاه معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - أمر المدينة وعمره ستة عشر عامًا فحسب،
فكيف وهو الآن في الأربعين من عمره، أي في اكتمال النضج؟!
في عهده ضمَّ إليه باقي البلاد الإسلامية، وانتصر
على مصعب بن الزبير في العراق، ثم على عبد الله بن الزبير في مكة، واستقرَّ الأمر له،
ولم يخلُ الأمر من فظائع أخرى تُعيد التذكير بعهد يزيد بن معاوية؛ إذ كان الحجاج بن
يوسف الثقفي واحدًا من أبرز رجاله، وهو الذي ثَبَّت له أمر العراق، وانتصر على الخوارج،
وهو الذي قاد له الحملة على عبد الله بن الزبير في مكة حتى هزمه، وقذف البيت الحرام
بالمجانيق، ثم صلب جثة عبد الله بن الزبير، وأساء إلى سيدة الدنيا في وقتها أسماء بنت
أبي بكر؛ فلامه فيها عبد الملك بن مروان، وعلى الجانب الآخر تخاذل الناس وانفضُّوا
عن ابن الزبير واحدًا تلو الآخر، وجماعة تلو الأخرى في مشهد يُعيد التذكير بالحسين
بن علي - رضي الله عنه -، كما يُعيد التأكيد على أن جميع القوى افتقدت التماسك والتوحد،
الذي كان متوفرًا للأمويين ما يزيدُ في التأكيد على أنه لم يكن أحد في هذا الوقت أقدر
على الخلافة منهم.
وَصَفَتِ الأمور لعبد الملك بن مروان، ولم يَعُدْ
يُضايقه إلَّا بعض ثورات الشيعة المحدودة في العراق، وثورات الخوارج، التي تولَّى القضاء
عليها البطل الكبير المهلب بن أبي صفرة، واستطاع أن يهزمهم هزائم قاسية في أكثر من
موقعة فاصلة، وقد كانت ثوراتهم أخطر الثورات على بني أمية.
ولكن سياسة الحجاج ما لبثت أن أشعلت ثورة خطيرة
وكبرى قادها عبد الرحمن بن الأشعث ومعه سعيد بن جبير والشعبي، وكلاهما من العلماء الكبار،
إضافة إلى دعم وموافقة من الصحابي الجليل أنس بن مالك؛ ولكنه لم يستطع القتال لشيخوخته،
وانتشرت الثورة واشتعلت، وانضمَّ إليها كثير من الناس تبعًا لمَنِ انضمَّ إليها من
العلماء والفقهاء والقرَّاء، وبلغت الثورة منحى خطيرًا، وهزم جيش ابن الأشعث كافة الجيوش
التي أرسلها إليه الحجاج لمواجهته؛ مما دفع عبد الملك إلى أن يعرض على أهل العراق أن
يعزل عنهم الحجاج بن يوسف الثقفي، وأن يتولَّى عبد الرحمن بن الأشعث إمارة ما شاء من
البلاد، ولكن الثائرين ظنُّوا أن هذه التنازلات تُخبر بقرب انتصارهم الكامل؛ فرفضوا
هذا العرض، فاستمرَّ القتال مائة يوم وقع فيه ثمانون معركة، انتهى أغلبها لصالح أهل
العراق، ثم انتهى الأمر بانتصار حاسم للأمويين وفشلت هذه الثورة الكبرى، التي لم تُواجه
الدولة أخطر منها طوال فترة قوتها.
وفي أثناء الصراع الداخلي في الدولة الإسلامية
توقفت الفتوح بطبيعة الحال، بل تراجعت الدولة الإسلامية، وضاعت منها بلاد كانت قد فُتِحت
في الشمال الإفريقي، بل واضطرَّ عبد الملك إلى أن يُصالح الروم على إتاوة سنوية يدفعها
لهم!! وهو الأمر الذي ما كانوا يحلمون بشيء منه! ولكن بعد وحدة الدولة تحت سلطة عبد
الملك انتهت هذه المرحلة، واستعاد المسلمون قوتهم؛ بل بدءوا مرَّة أخرى في فتح البلاد،
ومنها بلاد الروم نفسها، التي أخذت في التساقط أمام المسلمين في عهد عبد الملك وأبنائه.
ومن أهمِّ ما صنعه عبد الملك بن مروان هو تنظيم
الدولة إداريًّا، وجعله اللغة العربية لغة رسمية تُكتب بها الدواوين، وسَكَّ العملة
بالعربية، وفرض التعامل بها في الدولة؛ وهي القرارات التي كان لها أكبر الأثر في حياة
الأُمَّة الإسلامية بأثرها.
تُوُفِّيَ عبد الملك بن مروان (شوال 86هـ) بعد
عشرين عامًا حَقَّق فيها ما غاب عن الأُمَّة منذ ربع قرن، منذ وفاة معاوية، من أمن
البلاد وتوحيدها، وانتهاء الفتن، والعودة إلى عصر الفتوح، وأعاد فيها سلطان بني أمية،
ووطَّد فيها أمر الخلافة، وتولَّى الأمر من بعده ولده الوليد بن عبد الملك.
وجد الوليد بن عبد الملك ساحة مهيَّأة، وكان
يهيم بالبناء والعمارة، فبنى المسجد الأموي الذي هو تحفة معمارية لا مثيل لها في وقتها،
وبنى في المسجد النبوي وتوسَّع فيه، واهتمَّ بزخارفه وزينته، كما اهتمَّ بأعمال حفر
الترع والقنوات والآبار، وتسيير الطرقات، وكان أول مَنْ بنى المستشفيات، وجعل فيها
نظام الأطباء العاملين بمرتبات، وبنى مستشفى لمرضى الجذام، وتعهَّد أمر المحتاجين والفقراء
والعاجزين .. وما إلى ذلك؛ حتى جعل لكلِّ مُقْعَد خادمًا، ولكل أعمى قائدًا. واستمرَّت
الفتوحات كذلك في عهد الوليد بن عبد الملك؛ ففي عهده تمَّ الفتح العظيم: فتح الأندلس،
التي ستكون فيما بعدُ بقعة فارقة في تاريخ الإنسانية، كما توالت الفتوحات في أواسط
آسيا وبلاد السند[2]، واستمرَّ
التطور المالي والإداري في الدولة في عهد الوليد بن عبد الملك، ظلَّ الوليد عشر سنوات
في منصب الخليفة؛ حتى وافاه الأجل (96هـ)، وتولَّى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن
عبد الملك.
ومن سليمان بن عبد الملك نبدأ المقال القام
بإذن الله تعالى
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق