بدأنا في المقال الماضي في استعراض
شهادة الفيلسوف المخضرم د. عبد الرحمن بدوي -والذي أنهى حياته الفكرية الزاخرة
بالعودة إلى الإسلام- عن حقبة العسكر، بمناسبة مرور ثمانية وتسعين عاما على مولده،
وباعتباره شاهد عيان على تحول مصر من زمن الاحتلال المباشر إلى زمن العسكر.
ونواصل في هذا المقال ما بدأناه من واقع مذكراته
الحافلة المنشورة في جزأين، وهذه المرة سنرى عينة من سياسة العسكر ورجالهم في
السفارات والوزارات.
قال عبد الرحمن بدوي:
7. "تدهور سعر صرف الجنية المصري في
سويسرة؛ فبعد أن كان قبل 26 يوليو (1956) في السوق الحرة في المتوسط 11.5 فرانك
سويسري، أخذ ينهار، فصار بعد يومين اثنين (من تأميم القناة، لأن التأميم كان يوم
سبت) 8.5 فرنك، واستمر في التدهور يوما بعد يوم حتى بلغ 4 فرنكات يوم مغادرتي
سويسرة في 23/11/1958، وواصل تدهوره حتى بلغ اليوم (أوائل الثمانينات) فرنكين
اثنين"[1].
8. "لكن جمال عبد الناصر لم يكن يهمه
من الأمر (تأميم القناة) أية منافع اقتصادية، بل كان يريد عملا سياسيا مفاجئا
مثيرا يكفل له الشهرة والدويّ، حتى لو جرَّ على مصر الخراب. وقد قام بعمله هذا
بمفرده دون أن يستشير أحدا من زملائه ووزرائه. ولم يعرض الأمر على هؤلاء إلا بعد
إعلانه وتنفيذه للتأميم... وهكذا كانت وستكون كل تصرفات جمال عبد الناصر خارجيا
وداخليا: تصرفات حمقاء طائشة لا تحسب حسابا لأي شئ غير الدويّ الأجوف العقيم حول
شخصه، مهما ترتب عليها من خراب وويلات لمصر وشعب مصر ومكانة مصر في المجتمع
الدولي"[2].
9. "هل تدري بماذا واجه جمال عبد
الناصر وصحبه هذا المؤتمر؟ (المؤتمر الذي عقدته إنجلترا للمنتفعين من قناة السويس
للتخطيط لضرب مصر) لقد طلبوا من السفارات في بعض الدول الأوروبية أن يتجمع
المصريون في ميدان واسع في عواصم البلاد التي يوجدون فيها، وأن يقفوا حدادا في هذا
الميدان ساعة افتتاح مؤتمر لندن! وأن تؤخذ لهم صورة وهم في وضع الحداد هذا! واتصل
بي القائم بأعمال السفارة آنذاك (وطلب مني هذا) فقلت له: ما هذه المسخرة؟ فقال:
أنا معك بأنها مسخرة لا معنى لها، لكن ماذا أعمل؟! مضطر إلى تنفيذ التعليمات
الصادرة... واتصلت بطلاب جنيف وطلبت منهم أن يفعلوا ذلك، وفعلوا ذلك وهم يستهزئون،
بدليل أن معظمهم كان يبدو في الصورة وهو يضحك"[3].
10. "أخذت بريطانيا وفرنسا تستعدان
لشنّ حملة عسكرية على مصر، ابتداء من منتصف أغسطس كانت أرتال من الدبابات
والمدرعات تسير في الطرق الرئيسية في فرنسا متجهة إلى طولون، وأرسلت بريطانيا
تعزيزاتها البحرية وبعض بوارجها إلى قبرص. وكان على الأسطولين الفرنسي والإنجليزي
أن يتجمعا في قبرص، ومن هناك تبدأ الحملة.
وكل هذا يجري في فرنسا وفي إنجلترا دون أن
يعلم الملحق العسكري في كل من سفارتي باريس ولندن أي شيء عن هذه التحركات، لأنه
مشغول فقط بالتجسس الرخيص التافه على المصريين المساكين المقيمين في فرنسا
وإنجلترا؛ ليعرف من جلس مع من في المقهى، ومن يصاحب مَن مِن الفتيات، ومن ينتقد أي
شيء يجري في مصر، إلى آخر هذه الترهات التي أنفق عليها جمال عبد الناصر وزبانيته
في المخابرات الشطر الأكبر من العملة الصعبة التي في حوزة الخزانة المصرية"[4].
11. "وجاء محمود فوزي (وزير الخارجية
المصري) خلال شهر أكتوبر، وكنتُ في جنيف، فاشتركت في استقباله في مطار جنيف. ولما
نزل من الطائرة، سأله بعض الصحفيين عن رأيه في الموقف. فأجاب: الجو جميل في جنيف
والسماء صاحبة. فدش الصحفيون من هذاالجواب، فكرروا السؤال، فكرر هو نفس الجواب.
وازدادت الدهشة من هذا الوزير ورد عليّ أحد الصحفيين قائلا: ما هذا الذي يقوله
وزيركم! ماذا أصابه؟ فابتسمت وقلت: ربما كان هذا هو ما يُسَمَّى بالدهاء
الدبلوماسي!
وأصابتني حيرة وخجل من هذا الوزير الذي لا
يستطيع أن يرد بجملتين تتعلقان بالموضوع ولا تلزمانه بشيء، كأن يقول مثلا: أنا
قادم إلى جنيف للالتقاء بسكرتير عام الأمم المتحدة لبحث موضوع تأميم القناة. وأرجو
أن نصل إلى حل في هذه المسألة"، أو ما يشبه من عبارات مفيدة لا تقيده بشئ.
أما أن يقول ما يقول فهذه هي البلاهة بعينها.
وازددت يقينا من بلاهة هذا الرجل –الذي
زمَّر له بعض الصحفيين منذ أن كان ممثلا دائما لمصر في هيئة الأمم منذ سنة 1927
حتى سنة 1952- لما أن جاء إلى برن وأقام له السفير عشاء حضره أعضاء السفارة، وكان
الهدف من الاجتماع به استيضاح الأمور الجارية (تأميم قناة السويس وما تبعه من
آثار) والإفادة من توجهاته. لكنه أمضى السهرة كلها، طوال ثلاث ساعات، دون أن ينطق
بكلمة واحدة في موضوع الساعة. وانبرى مستشار السفارة –وهو شخص ناقص العقل- وتحدث
عن صيد الأسود في الصومال وكينيا، يوم أن كان عضوا في هيئة الوصاية على الصومال
قبيل استقلاله. وكلما حاولتُ أن أسأل محمود فوزي عن رأيه في الموقف الحالي كان
يشيح بوجهه ويطلب من ذلك المستشار المأمون أن يتابع حديثه عن صيد الأسود في
الصومال وكينيا! وهمستُ في أذن الملحق العسكري ليدخل ويوقف هذا الهراء، فاعتصم
بالصمت.
وهكذا أيقنت بأن وزير الخارجية المصري، محمود
فوزي، ما هو إلا رجل معتوه جهول لا يدري في السياسة شيئا.
ثم سمعته بعد ذلك، بعد العدوان الثلاثي،
يخطب في مجلس الأمن عند عرض هذا العدوان على مجلس الأمن. فسمعت شخصا عييا غبيا لا
يستطيع أن ينطق بحجة، فضلا عن صوته الذي كان يموء به مواء القط المخنوق. خصوصا وقد
تلاه في الخطابة آبا إيبان (ممثل إسرائيل في هيئة الأمم) بفصاحته وبلاغغته وصوته
الجهوري الأخَّاذ. فامتلأت نفسي حسرة وغمًّا وأنا أسمع المناقشات في مجلس الأمن من
الراديو السويسري وهو ينقلها على الهواء مباشرة من نيويورك ابتداء من منتصف الليل.
ألم يخطر ببال عبد الناصر أن يستمع إلى كلام
ممثله في مجلس الأمن أثناء عرض قضية العدوان الثلاثي على مصر في أوائل نوفمبر
1956، ويدرك منه مدى عي وعجز هذا المندوب، محمود فوزي؟
لكن يبدو أن هذا العيّ والعجز هما الصفتان
المطلوبتان في وزرائه وأعوانه. وإلا فإن محمد حسنين هيكل –وهو من أشدّ الكتّاب
مبالغة في تقدير محمود فوزي؛ فهو الذي رشَّح محمود فوزي لرئاسة الوزارة في بداية
عهد أنور السادات- أقول إن هيكل يذكر في أحاديثه عن عبد الناصر أن هذا كان في
بريوني بيوغسلافيا أثناء زيارة تيتو، وحدث انقلاب 14 تموز (يوليو) في العراق سنة
1958، وأراد أن يتخذ موقفا من هذا الحادث فاستشار محمود فوزي، وكان يصحبه في
الزيارة؛ فطلب إمهاله فسحة من الوقت للتفكير، وعاد بعدها ليقول لعبد الناصر:
"لقد فكرت طويلا في هذه المسألة، وانتهيت إلى أنه لا يستطيع الفصل فيها غير
سيادة الرئيس" – وهكذا تفتقت عبقرية هذا "الدبلوماسي" الكبير عن
هذا الحل العظيم وهو أن عبد الناصر هو وحده الذي يستطيع أن يدلي برأي في هذه
المسألة!! فما دوره إذن بصفته وزيرا للخارجية و"دبلوماسيا" كبيرا إن كان
رئيس الجمهورية وحده هو الذي يستطيع التفكير في المشاكل الدبلوماسية!! إنه إذن
مجرد "رقم" (نمرة) يكتمل به عدد الوزراء!
ولا أريد هنا أن أروي الفضائح المالية التي
تورط فيها محمود فوزي لما كان قنصلا في القدس عام 1943 في موضوع يتعلق بالملكة
الوالدة نازلي والدة فاروق- وقد رواها لي أحمد رمزي القنصل آنذاك في بيروت- ولا
تلك التي وقع فيها لما كان ممثلا لمصر في هيئة الأمم من سنة 1947 حتى أواخر سنة
1952، وقد رواها لي أحمد فراج طائع وزير الخارجية في وزارة محمد نجيب الأولى التي
شكلت في 8/9/1952.
وقد أطلت أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى محمود
فوزي، لأنه نموذج صارخ –إذ ظلَّ وزيرا للخارجية من ديسمبر 1952 حتى توليه رئاسة
الوزراة في أول عهد السادات في أخريات سنة 1970، فهو أطول الوزراء عمرا في تولي
وزارة الخارجية في تاريخ مصر – أقول: إنه نموذج صارخ لهذا الصنف من الناس الذين
يولون أرفع المناصب في الدولة في مصر. وهو ما يفسر بعض أسباب ضعف الأداة الحكومية،
وضعف مركز مصر الدولي، وما هي عليه من تخلف في هذا المضمار.
لقد أردت أن نتخذ منه نموذجا لحالة مزمنة
أليمة، وإلا فهو في ذاته لا يستحق أي ذكر"[5].
وبإذن الله تعالى نواصل متابعة سياط
الفيلسوف عبد الرحمن بدوي على ظهور العسكر في المقالات القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق