من بدائع المعاني التي ركزَّ عليها سيدنا الشهيد
سيد قطب رحمه الله، معنى "المفاصلة الشعورية" و"الاستعلاء بالإيمان"،
وقد أفاض القول في أهمية تمتع "صاحب الرسالة" بهذه النفسية لكي يتمكن من
أداء رسالته في ظل هيمنة الباطل وإفساده لعقول الناس وأفكارهم.
إن "ازدراء الأصنام" والتنقص منها
ونفي أنها آلهة تبدو الآن فكرة طبيعية ومنطقية وبديهية، لكنها في عصر هيمنة الباطل
كانت فكرة شنعية وقبيحة و"إرهابية" (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين
* قالوا: سمعنا فتى "يذكرهم" يُقال له إبراهيم)
وكانت كذلك فكرة عجيبة غريبة مثيرة للدهشة (أجعل
الآلهة إلها واحدا، إن هذا لشئ عجاب)
كان التعرض للأصنام يعني الإساءة لـ "التراث
الوطني" و"الرموز الوطنية" (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير
إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)
كان تنقص الأصنام يعبر عن مؤامرة خارجية لتغيير
هوية البلد مما يتطلب معركة طويلة وتحتاج إلى الصبر والتضحية (وانطلق الملأ منهم أن
امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يُراد).
ولهذا احتاج صاحب الرسالة إلى قوة نفسية عظيمة
لكي يمكنه الصمود في وجه "الهيمنة الثقافية للباطل"، لكي يقف في وجه
"السيادة الفكرية للباطل".. تلك الهيمنة والسيادة التي تنعكس في كل الأفعال
الصغيرة والكبيرة واليومية.
ومن أخطر ما يتعرض له صاحب الرسالة هو أن يمسه
شيء من الباطل، وهو أمر في غاية الأهمية وفي غاية العسر كذلك، حتى إن الله تبارك وتعالى
امتن على نبيه بأنه ثبته فقال تعالى (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا
* إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
تأمل كيف أنه سبحانه وتعالى جعل مجرد الركون
القليل سببا في ضعف الحياة وضعف الممات أيضا.. ثم تأمل كيف أنه سيحانه وتعالى يمن بالثبات
على أكمل الخلق وأطهرهم وأقربهم إليه.
لقد كان يدهشنا ويحرقنا كيف أن بعض الناس في
هذا العالم يسمون المقاومة الفلسطينية إرهابا ولا ينتبهون لجرائم الاحتلال التي أثارت
هذه المقاومة أصلا، مع الفارق الرهيب بين قدرة المقاومة وبين بشاعة جرائم الاحتلال
واتساعها!
يدهش كذلك كيف أن العالم لا يتحرك نصرة للشعب
السوري ضد بشار في حين يركز على "إرهاب" داعش أو النصرة أو غيرها، في حين
لا يبلغ قتلى هؤلاء شيئا أمام سيل الجحيم الذي يفتحه بشار على الناس!
المصيبة أن يظهر من بيننا نحن الآن من يدين أو
يستنكر دفاع أهل سيناء عن أنفسهم وردهم على جرائم العسكر المصري.. رغم أن هؤلاء من
معارضي الانقلاب الذين ثبت لهم بعد هذه المدة أن السلمية انتحار وأن العسكر خونة وعملاء
وأنهم يحفظون أمن إسرائيل وأنهم لا يترددون أبدا في سفك دماء الناس وأنهم يتلذذون بتعذيبهم
وقتلهم وحرق جثثهم.
ما هذا إلا لسطوة ثقافة الباطل، للسيادة الفكرية
للباطل.. تلك التي تجعل "الزي الرسمي" مقدسا، فلئن قتل فبحق قتل، ولئن قُتل
فهو الإجرام والإرهاب!!
ليس أعجب ممن يدعي أنه ينتمي إلى معسكر الثورة
ورفض الانقلاب ثم هو يدين ما حدث في سيناء أو يتأسف على مقتل "جنود فرعون"..
ولعله يحتاج أن يجب مع نفسه لماذا أهلك الله جنود فرعون معه، ولماذا أهلك الله جيش
إبرهة الأشرم معه؟!
الأنظمة المستبدة لا تسقط بالسلمية ولا بالهتاف
ولا بالمظاهرات ولا بتسول المحاكم الدولية وتعاطف النظام العالمي (وهو الأب غير الشرعي
للأنظمة الفاسدة).. فلئن اتفقنا على هذا فإن كل عمل يوجع هذه الأنظمة هو جهاد في سبيل
الله!
جهاد يحتاج معه المجاهد أن يتمتع بهذه المفاصلة
الشعورية وهذا الاستعلاء بالإيمان وهذا التميز عن الباطل لئلا يُصاب بالركون للظالمين،
ولئلا ينهزم نفسيا أمام سطوة ثقافة المجرمين!
ولقد بلغ الصحابة ما بلغوا بهذه المفاصلة.. فهم
القوم الذين حاكموا تاريخهم ومعتقداتهم الأولى ورفضوها وقاتلوها ولو كان عليها آباؤهم
وإخوانهم وعشيرتهم، فقد آمن خالد بن الوليد بدين يلزمه بأن يؤمن أن أباه الوليد بن
المغيرة في النار ويقرأ الآيات التي نزلت فيه، كذلك عكرمة بن أبي جهل، كذلك عمرو بن
العاص، بل كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نهاه الله عن الاستغفار لعمه الذي
نصره! وقد قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه في بدر، وقال أبو بكر لابنه "لو كنت رأيتك
يوم بدر لقتلتك"، وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى النبي وقال له: لو كنت
آمرا أحدا أن يقتل أبي فمرني بذلك فإني أبر الناس به وأخشى إن قتله غيري أن أغضب على
قاتل أبي فأقتله فأكون قد قتلت مسلما بكافر.
بهذه المفاصلة عن الباطل وأهله وعقائده وأفكاره
خلدوا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق