اقرأ أولا:
في هذا المقال يتذكر عبد الرحمن بدوي حال
مصر أثناء العدوان الثلاني 1956، وكيف نظر إليها من موقعه كمسؤول عن البعثات
العلمية في السفارة المصرية في سويسرا، يتذكر كيف جرت الهزيمة القبيحة، وكيف كان
حال السياسة أشد قبحا، وكيف كانت الدبلوماسية المصرية في الخارج في عالم آخر.
قال عبد الرحمن بدوي:
12. "كان الموقف في السفارة المصرية في
برن يدعو إلى أشد السخط، فالسفير (عبد الشافي اللبان) متبلد الإحساس لا يهتم بأي
شيء، اللهم إلا أن يوزع المبلغ الذي تبرعت به الصين الشعبية لتأييد مصر (ومقداره
عشرون مليونا من الفرنكات السويسرية) على أعضاء السفارة المصرية في باريس الذين
لجأوا إلى سويسرا (وعلى رأسهم السفير كمال عبد النبي) وكانوا يحلمون بهزيمة مصر في
بضع ساعات وإعادة العلاقات مع فرنسا في خلال أيام وعودتهم هم بكامل أفرادهم –وهذا
هو الشيء الوحيد المهم عندهم، ولو خربت مصر خرابا تاما- عودتهم إلى باريس من جديد
وكأن لم يكن شيء.
وكان الملحق العسكري [في السفارة المصرية في
برن] (وحيد رمضان) يتلقى من وزارة الحربية بلاغات كلها كاذبة عما أسقطناه من
طائرات للعدو (الإنجليز والفرنسيين)؛ وكان يطلب مني أن أتصل برئيس قسم الشئون
الخارجية في جريدة Neue Zuricher
Zeitung
التي تصدر في زيورخ وتعد أكبر صحيفة يومية في سويسرا، وكنت أعرفه معرفة وثيقة
بتوصية من أستاذي روبرات ران Rahn الذي صار مستشارا
ثقافيا للسفارة السويسرية بالقاهرة وأوصى بي لدى بعض الأساتذة والمثقفين والصحفيين
السويسريين عند تعييني في منصبي هذا. فاتصلت به، كما اتصلت بمن أعرف في جريدة La Tribune de Geneve لينشروا هذه
البرقيات. فأخبروني أن البرقيات الواردة إليهم من المصادر المحايدة –وكالات
الأنباء: رويتر، يونيتدبرس، أسوشيتدبرس إلخ- تناقض كل المناقضة تلك البرقيات. وكنت
أنا أعلم هذا تماما، وقلته للملحق العسكري في وقته، لكن كان عليّ تبليغ رسالته.
ولما عاود الملحق العسكري في اليوم التالي لتبليغ برقياته، قلت له: لا داعي
للاستمرار في هذا، فلن نضلل أحدا، بل سنصير أضحوكة في نظر الناس"[1].
13. "وكنت خلال أيام العدوان الثلاثي
أتجرع أشدد الغصص مرارة، وأنا أشاهد في السينما السويسرية نشرة أنباء القتال،
وكلها حافلة بمخازي القوات المسلحة: المطارات المصرية تدمر عن آخرها بما فيها من
طائرات، والضباط والجنود وهم يهربون مجردين من الملابس العسكرية وأقدامهم حافية،
وقائد حامية بورسعيد (الموجي) وهو يسلم المدينة بعد ثلاث ساعات فقط من الهجوم
البحري الإنجليزي الفرنسي ونزول قوات المظلات في جنوب بورسعيد، والقوات
الإسرائيلية بقيادة موشى ديان تجتاح شبه جزيرة سيناء في 36 ساعة فقط... وهذا كله
يحدث أمامك بالصور، بينما لو فتحت الإذاعة المصرية كنت لا تسمع إلا أناشيد النصر:
"الله أكبر فوق كيد المعتدي..." أو الأغاني الحماسية من فايدة كامل
وغيرها – وكأن مصر في عالم آخر لا تدري شيئا عما جرى على أرضها في سيناء ومنطقة
شمالي القناة!!
أين إذن "أكبر قوة ضاربة في الشرق
الأوسط"؟ وأين إذن هذه "القوات المسلحة" التي سلمت لها مصر كل شيء،
ابتغاء تكوين جيش قوي يدافع –على الأقل- عن مصر؟ وأين التضحيات الجسيمة التي ضحى
بها الشعب المصري: من حريات وأموال، وما عاناه الكثيرون من إهانة واستبداد واغتصاب
للأموال والحرمات والمناصب القيادية – إذا كانت هذه هي النتيجة حين يجد الجد
ويتوجب على القوات المسلحة المسيطرة على كل مقادير الأمور في البلاد أن تقوم
بواجلها؟!
لهذا زالت الغشاوة عن عيني، وزال ما تبقى من
حماسة عندي لثورة 23 يوليو، وأصبحت أوقن كل الإيقان أن هذه الثورة هي أكبر كارثة
عانتها مصر منذ الفتح العثماني 1517.
وكانت حماستي للثورة قد تزعزت قبل ذلك بعام
لما أن عقد رجالها اتفاقية السودان التي بمقتضاها استقل السودان عن مصر استقلالا
تاما، بعد أن ظلت مسألة السودان هي العقبة الكأداء في كل المفاوضات التي أجرتها
مصر مع بريطانيا منذ سنة 1920 حتى ذلك التاريخ. لقد قلت لنفسي آنذاك، فيم إذن كان
كل نضالنا طوال خمسين عاما إن كانت النتيجة هي هذا التسليم المطلق في مسألة
السودان؟! وكان أعجب المفارقات أن استقل السودان عن مصر وبريطانيا استقلالا تاما
في أول يناير 1956 بينما بقيت القوات البريطانية في احتلالها لمصر حتى 15 يونيو من
نفس العام"[2].
14. "كنت أسأل الملحق العسكري [في
سفارة برن] (وحيد رمضان) والملحق الجوي (عمر الجمال) كيف حدثت هذه الكارثة للجيش
المصري، الذي لم يصمد ولو لبضع ساعات سواء في سيناء وفي منطقة بورسعيد – فيلوذ
أولهما بالصمت أو يخوض في كلام لا معنى له يتهرب به من الجواب؛ أما الثاني فكان
صريحا من اللحظة الأولى فكان يقول صراحة إنه لا قِبل لنا بمواجهة هذا العدوان، لا
في الجو ولا على الأرض، وإن طيراننا ضعيف عدة وتدريبا. ولما أخبرته بما سمعته في
الإذاعة المصرية من تصريح لقائد سلاح الطيران (صدقي) من أن سلاح الطيران المصري لا
يزال سليما وأنه مستعد –وكان ذلك بعد وقف القتال- للقضاء على كل من تسوله نفسه
العدوان على مصر – علق قائلا: متى نكف عن هذه الأكاذيب الصبيانية!! ولماذا إذن لم
يرد على هجوم الطيران البريطاني في الليلة الأولى لقيام العدوان؟!
وهنا قلت في نفسي: إن الهزيمة هزيمتان:
هزيمة مادية عسكرية، وأخرى معنوية مدمرة لكياننا المعنوي. والثانية أشد وأنكى، لأن
معناهما هو أننا سنواصل التضليل والكذب على أنفسنا وعلى الشعب المصري، ولن نسعى
لتلافي ما وقعنا فيه من أخطاء، بل سنظل فرائس للخداع والأوهام. إن أول خطوة
للإنقاذ هي الوعي بمدى الكارثة والاعتراف الذاتي بالأخطاء الفاحشة التي ترتكبها
القيادة السياسية والعسكرية، ومحاولة التغيير الجذري الشامل للأوضاع التي أدت بنا
إلى هذه الكارثة الفظيعة.
لكن الذي فعلته القيادة السياسية والعسكرية
كان على العكس تماما: إذ راحت عن طريق الإذاعة والصحافة توهم الناس أننا انتصرنا
نصرا عسكريا كاسحا مؤزرا، وأن "المقاومة الشعبية" في بور سعيد هي التي
ردَّت أساطيل الغزاة الإنجليز والفرنسيين على أعقابها، وساقت الحناجز المزيفة
للتغني بهذا النصر العظيم، وتشبع الجو بهذه الأباطيل.
وليس ثم عامل أكثر تدميرا لمعنوية أمة من
الأمم أشد من الأكاذيب. لكن هذه ستكون الوسيلة التي سيعتمدها الحكام في مصر طوال
السنوات التالية"[3].
15. "حال جميع السفراء ورجال السلك
السياسي المصري في الخارج: لا يهمهم من مصر كلها غير شيء واحد:
"الحركة"؛ حركة التنقلات والترقيات بينهم، ولتذهب مصر كلها إلى الشيطان
فهذا لا يحرك في بدنهم شعرة... وهذه حال رجال السلك السياسي المصري دائما، ولا
سبيل مطلقا لتخليصهم منها. ذلك أن الجهل والتفاهة والتملق هي المؤهلات الأساسية
عندهم جميعا. وبفضلها وحدها يترقون في سلم المناصب الدبلوماسية، وينعمون بالعمل في
عواصم البلاد الكبيرة المتمدنة. وإذا ظهر بينهم واحد أوتي شيئا من العلم أو
الاهتمام بوطنه، فالباقون جميعا أعداؤه. وأهم ما يتباهي به الواحد منهم هو ملابسه،
وكيف يراعي البروتوكول في الوقوف والجلوس والسلام وترتيب الجلوس على موائد الطعام –
إلى آخر هذه التفاهات ولأن المثل الأعلى عند الواحد منهم أن يكون رئيس
جرسونات"[4].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق