في ذكرى ميلاده (فبراير 1917) أي منذ ثمانية
وتسعين عاما، يتذكر المرء د. عبد الرحمن بدوي، الفيلسوف المشهور والذي ختم حياته
بالعودة إلى رحاب الإسلام، والندم على ما كان منه أيام اعتناق الفلسفة وازدراء
المتدينين، لكن هذه العودة لم تطل فلم تثمر كثيرا من المؤلفات، آخرها كتاب السيرة
النبوية الذي كان يكتبه بالفرنسية ومات قبل أن يتمه.
ولقد كان بدوي ملء السمع والبصر، ولولا ثلاثة
أمور لذَهَبَ ذكرُه بذكر طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما من "أصنام"
الثقافة العربية، هي: حدة لسانه وصراحته الجافة، ثم هذه العودة إلى الإسلام والتي
ختم بها حياته، ثم –وهذا ربما السبب الأقوى- قسوته الطاغية على الاستبداد والعسكر
في مصر. ولهذا راج في مصر المثقفون الذي دخلوا "حظيرة المثقفين" –والتعبير
لوزير ثقافة مبارك فاروق حسني- وهم الذين اجتمع فيهم: لعق الأحذية والطعن في الدين
وكثير من الضعف العلمي.
أنهي بدوي كتابة مذكراته في مارس 1988،
ولكنه توقف فيها عند سيرته في منتصف السبعينات، وصدرت في جزئين حافليْن، ونحن هنا
نستثمر ذكراه لنأخذ من مذكراته بعض آرائه كشاهد عيان مخضرم على عصر العسكر، فقد
عايش الرجل وناضل –بوجه من الوجوه- في أيام الملكية، ثم جاء ليل العسكر وهو في
نضجه، وما إن تمكن حتى خرج من مصر التي صارت خانقة، ولم يعد إلا قبل أيام من وفاته
رحمه الله.
قال عبد الرحمن بدوي:
1. "لم يفعلوا شيئا، بل خربوا ما كان
قائما من قبل، ولم يستغلوا أرضا جديدة إلا في الأكاذيب والوعود الزائفة"[1].
2. "لكن المستأصلين والطفيليين
والحاقدين ومن لفَّ لفَّهم من المنافقين والدجالين جاءوا في سنة 1952 وما تلاها
فصبّوا سخائمهم المملوءة بالجحود والعقوق والتي ولَّدها الدَّخَل الكظيم على هذه
الصفوة من أعيان الريف، وحرروهم من ممتلكاتهم وحرموا البلاد من الانتقاع بتجاربهم.
فماذا كانت النتيجة؟ انهار الإنتاج الزراعي، وتألب الناس بعضهم على بعض، وصارت
للوشاية والوقيعة اليد العليا، وتحول الكل إلى فقراء ومعوزين، وكان ما أطلق عليه
آنذاك: تأميم (= تعميم) الفقر"[2].
3. "ما أتعش ما صارت إليه حال كل المكتبات
ذات الكتب الأجنبية في مصر! لقد صارت في حكم المعدومة أو تكاد. وهو مقياس دقيق لما
صارت إليه حال الثقافة بعامة في مصر الآن. ولا يقولن أحد إن السبب في ذلك هو زوال
الجاليات الأجنبية من مصر، فهذا فقط واحد من عدة أسباب، لأن المصريين الذين كانوا
يترددون على هذه المكتبات الأجنبية لا يقل كثيرا عن عدد الأجانب. كان هذا وعدد
المتعلمين في مصر لا يزيد عن 20% وعدد السكان 14 مليونا، بينما المتعلمون الآن 60%
وعدد السكان 48 مليونا! وهذه كلها وقائع مادية وأرقام تدمغ كل مكابر، وتفضح أمام
الملأ أولئك المسئولين عن هذه المحنة الكبرى التي نعانيها منذ ثلاثين عاما
ونيفا"[3].
4. "العبث الذي نراه مهيمنا في مصر منذ
عشرات السنين في أمر جوائز الدولة التقديرية وتولي المناصب العالية واقتسام
العضوية في الهيئات العلمية – مما أهدر قيمة كل جائزة أو عضوية، وجعل من العار على
صاحب الفضل أن ينالها. وما على المرء إلا أن يتصفح أسماء الذين حصلوا على جائزة
الدولة التقديرية في مصر منذ سنة 1965 حتى اليوم ليتبين أنهم أقل من كثير غيرهم
استحقاقا لهذه الجائزة، وأن معظمهم لم ينتجوا شيئا يذكر، بل كان العقم والجهل معا
هما الصفتين الغالبتين عليهم... لهذا تحولت جائزة الدولة التقديرية من تقدير للعلم
إلى إهدار لكل قيمة عليمة. وبدلا من أن تكون حافزا للإنتاج العلمي الممتاز، صارت
وسيلة وفرصة للتزلف والنفاق والعمل في خدمة مخابرات الدولة، في خدمة السلطة
الحاكمة الظالمة وتأييد مظالمها وجرائمها ومخازيها"[4].
5. "وبهذه المناسبة أذكر واقعة تدل على
أحط درجات النفاق لدى بعض الأساتذة الجامعيين الذين يتولون الترشيح للجائزة
التقديرية. كان ذلك في اجتماع للجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب
والعلوم الاجتماعية في خريف سنة 1962، وكان جمال عبد الناصر قبل ذلك ببضعة أشهر قد
أصدر ما دعاه "الميثاق الوطني". وإذا بذلك الأستاذ الجامعي يقول ونحن
بصدد الترشيح لنيل الجائزة التقديرية في العلوم الاجتماعية: "الأمر لا يحتاج
إلى أي تفكير؛ إنه أوضح من نور الشمس؛ إن علينا أن نرشح صاحب الميثاق
الوطني". واستولت الدهشة على الحاضرين، وأُحرج مقرر اللجنة د. أبو العلا
عفيفي فتوجه إلى الأعضاء يسألهم الرأي في هذا الاقتراح. وفي تأفف وحرج ظاهر قال:
إن الاقتراح جدير بالنظر. وتلاه زكي نجيب محمود، فأيَّد الاقتراح، ولكن بفتور.
كذلك فعل آخران غيره. وبقيت أنا صامتا. فقال مقرر اللجنة: لماذا تسكت؟ نحن بانتظار
رأيك. فقلت في حدة: "أنا مندهش من هذا الاقتراح! فكيف يتجرأ صاحب الاقتراح
(د. محمد ثابت الفندي) على أن يتطاول على رئيس الجمهورية فيزج به في التنافس على
هذه الجائزة؟! إن هذا تطاول على مركز رئيس الجمهورية! فأسرع صاحب الاقتراح بسحب
اقتراحه، وارتاح سائر الأعضاء الجبناء لأن ردي هذا خلصهم من الورطة التي انزلقوا
إليها. وبهذه الحيلة الماكرة أفسدت على صاحب الاقتراح ما كان يتطلع إليه من ورائه
وهو أن يكافأ عنه بتعيينه مديرا لجامعة الإسكندرية، بعد أن استنفد كل وسائل النفاق
في سبيل ذلك دون جدوى. ولم يكن قصدي طبعا الدفاع عن مقام رئيس الجمهورية، بل ضرب
النفاق بأنجع سلاح"[5].
(قلتُ –إلهامي- انظر كيف كان يُدفع النفاق
بنوع من النفاق أيضا، ما يدلك على سطوة المجرم وقسوته وأن أحدا لا يملك أن يعترض
تلميحا ولو على ترشيحه لجائزة ينافس فيها العلماء الذين لا يبلغ علمه علم شيء من
تلاميذ أحدهم)
6. "لم يكن مدير البعثات (الطلابية في
وزارة التربية والتعليم) هذا (يوسف سيد) يحسن من عمله شيئا أبدا، إذ كانت جميع
رسائله إليَّ –وقطعا إلى غيري من مديري مكاتب البعثات- وريقات مطبوعة سلفا على
الاستنسل وليس فيها غير سطرين اثنين هما: "مرسل إليكم طيه رزمة من الأوراق
الملحقة للإحاطة وإجراء اللازم". وكان عليَّ أن أفتش طويلا في هذه الأوراق
التي هي مجرد استمارات مطبوعة كتبت فيها بيانات من الطالب كي أعرف ما هو المطلوب،
لأنه لا مدير البعثات ولا سائر موظفي الإدارة قد كلفوا أنفسهم قراءة هذه الأوراق
وتحديد المطلوب منها. ولهذا كتبت ألقب مدير إدارة البعثات بلقب "مدير الإحاطة
وإجراء اللازم". ومع ذلك جددوا له ثلاث أو أربع مرات بعد بلوغ سن التقاعد.
فواعجبا لما يجري في الإدارات الحكومية في مصر! إنه الإبقاء على التافه الهزيل،
وإبعاد المجتهد الكفء. ومن هنا كانت سوق الجهل والتفاهة في الحكومة المصرية رائجة؛
بينما أولو الاجتهاد والعلم والكفاءة مبعدون مخذلون"[6].
في المقال القادم إن شاء الله نواصل رصد
سياط الفيلسوف عبد الرحمن بدوي على ظهور العسكر، وكيف رصد لحظات تأسيس حكم العسكر،
ولحظات فاصلة كالعدوان الثلاثي وما بعده.
نشر في عربي 21
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق