كان المقال السابق من أكثر المقالات التي تلقيت عليها
تعليقات واستدراكات جاءتني من أصدقاء وزملاء باحثين ومن أساتذة كرام كذلك، والحق
أنه كان ينبغي توضيح أمر لتعتدل الصورة، فأنتهز أن أوضحه هنا، ذلك هو أني قدمت
ورقة في مؤتمر مئوية الشيخ محمد الغزالي (مائة عام على مولده 1917م) والمنعقد في
اسطنبول بعنوان: زعماء الثورة والتغيير عند الغزالي. حاولت أن أرصد فيها رأي
الغزالي في الشخصيات التي قادت حركات التغيير في العالم الإسلامي. ولأن أوراق
المؤتمرات نادرا ما يقرؤها الناس، فكان من نشر الفائدة أن أجعلها في مقالات[1]، وقد بدأتها بمقال سابق هنا على مدونات الجزيرة عن
طريقة الغزالي ومنهجه في التفكير والحكم على الرجال، ثم بدأنا مع رأيه في الشيخ
محمد بن عبد الوهاب، واليوم نرى رأيه في أحمد عرابي، ثم نواصل إن شاء الله تعالى
رأيه في آخرين، ثم نختم بما يؤخذ على منهج الغزالي وأحكامه. ففي هذه المقالات نجري
على المنهج الوصفي الذي يسرد رأي الغزالي في هؤلاء بلا تدخل ولا تعقيب، وبالتالي
بلا تأييد أو مخالفة أيضا. ولا يعني هذا بالضرورة التأييد لرأي الشيخ الغزالي
وأحكامه. وفي الواقع نرى أن المقال الأول هو المفتاح الذي يُفهم منه منهج الغزالي
وطريقته في الحكم على الرجال.
بعد هذا التوضيح ندلف إلى رأي الغزالي في أحمد عرابي.
تَعَلَّقَ الشيخُ الغزالي
بشخصية أحمد عرابي منذ مطلع شبابه، ففي ديوانه الذي كتبه وهو دون التاسعة عشرة من
عمره (أي في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين) أنشأ قصيدة عن أحمد عرابي تفيض
بمعاني التقدير والوفاء، ومعاني المضي على نفس طريق ثورته التي لم تنجح، وفي ذلك
الوقت كان عرابي شخصية مضادة للأسرة الملكية الحاكمة، وكانت تُصادر الكتب التي
تتحدث عنه[2]، ومما جاء في القصيدة:
حيتك من نفسى عواطفُ ثائر .. لا يستكين لسطوة من
جائرِ
حيتك من نفسى عواطف مخلصٍ
.. لا مأرب يلهيه شأن الفاجر
حيتك نفسى بل تحية أمة ..
تحبوك تمجيد الجرىء الماهر
إن فاتك النصر الجميل فإنها
.. كبوات جد فى طريق واعر
إن فاتك النجح العزيز فإننا
.. نسعى نحطم رغم جدّ عاثر
فى ثورة كبرى سنسعرها لظًى
.. يفنى أتون لهيبها المتطاير
قدِّست مهزوما تعفِّر فى الثرى
.. قدست مقهورا كسير الناظر
صفاته
وصفه الغزالي بأنه
"قائد مسلم في أمة تسعة أعشارها مسلمون"[3]، وبأنه "رجل معروف بالإيمان والتقوى. والرجال الذين عاونوه كانوا من أهل
الذكاء والاستقامة، من مدرسة جمال الدين الأفغانى وفيهم محمد عبده بلسانه وقلمه ورأيه"[4]، ويعتز الغزالي بأن عرابي "كان أزهريا يستمد ثقافته العامة وحكمه على
الأمور من تعليمه الديني"[5]، وقد "أراد وضع حد لفوضى الحكم الفردى والمفاسد التى تنتشر تحت ستاره
الداكن"[6]، واستطاع أن يقود ثورة في مصر "هى من ناحية الوزن التاريخى لثورات المبادئ
تشبه الثورة الفرنسية"[7].
كفاح الثورة العرابية
كانت الثورة العرابية
ثورة أصيلة، فلقد قامت "بدوافع إسلامية ضد طغيان ملك مستبد، وعصبيات جاهلية، ولذلك
قادها علماء الأزهر، ودعوا لها، ودافعوا عنها وحوكموا من أجلها... وقد دعم الثورة العرابية
الفريقان المتباينان من علماء الأزهر. رجال الفكر الحر وفى طليعتهم الشيخ محمد عبده
ومدرسته. ورجال التربية والتصوف وفى طليعتهم الشيخ عليش والشيخ أبو عليان وسائر شيوخ
الطرق. ومعنى هذا أن رجالات الإسلام على اختلاف مشاربهم كانوا ظهيرا للثورة العسكرية
الشعبية ضد مظالم الأسرة المالكة، والافتيات على الأمة.. وأن الإسلام كان موقد هذه
المقاومة العامة، وباسط أدلتها، ومضرم مشاعرها. وأنه لم يستورد مبادئ من هنا أو من
هناك لتشحن قلوب المصريين الفارغة أو تعلمهم ما يجهلون"[8]. وقد اتفقت الكلمة فيها على "إقامة حكم دستورى تتجلى فيه إرادة الأمة
وتتعاون فيه الكفايات العظيمة وتنتفى منه مصائب الاستبداد السياسى وما جره على المسلمين
من بوار ومعرة"[9].
لقد كانت "تصرفات إسماعيل
وابنه، وأمثالهما من حكام الشرق الإسلامى تدور داخل الحدود التى يرسمها الاستعمار الأجنبى"[10]، فمن ها هنا "شعرت الصليبية بأن الزمام يفلت منها إذا لم تسارع إلى العمل.
وتحركت إنجلترا تقف إلى جانب الخديوى ضد الشعب المطالب بحقوقه الدستورية. والمضحك المبكى
أن الإنجليز والفرنسيين، وأمثالهم يحملون لنا- معشر المسلمين- حريات معينة، الحرية
الشخصية التى تبيح لصاحبها دون قيد أن يتصرف كيف يشاء، يزنى، يسكر، يكفر. أى حرية نبذ
الإسلام واطراح تعاليمه وتعدى حدوده!! أما الحريات السياسية والاجتماعية التى قام أحمد
عرابي بترسيخها فى وادينا هذا.. فإن الإنجليز لا يطيبون نفسا بحصولنا عليها، وهم يعلنون
علينا الحرب كى نحرم منها"[11].
"ومن هنا نلمح سفيرهم
إلى جانب الخديوى توفيق يشد أزره كى يرفض مطالب الشعب، ويشترك معه فى مجادلة القائد
الباسل الذى ضاق ذرعا بالاستبداد والجور، وذلك فى ساحة عابدين، والمرء يشعر بالعجب
لمسلك هذا الإنجليزى المتطفل السمج !! ترى لو أن السفير الإنجليزى فى باريس انضم إلى
جانب الملك لويس ضد رجال الثورة وحاول إقناعهم بالحسنى أو بالشدة أن يتراجعوا فى مطالبهم
وأن يدعوا هذه الشعارات التى جاءوا بها أكان يُتْرَك حيا؟ كلا، كان سيقتل. ويذهب دمه
هدرا، ما يجرؤ أحد على ذكره.. وكان الفرنسيون يمضون فى طريقهم محققين أهداف ثورتهم
دون أن يشعروا إلا أن كلبا عوى يعترض حقهم فى الحياة فأخرس إلى الأبد. لكن السفير الإنجليزى
فى مصر يعترض حق أمة مسلمة فى الحياة، وهذا- فى منطق الصليبية- عمل مشروع. ولو أن أحدا
مسه بسوء لقالوا: يسوع قتل مرة أخرى، ولن ترضى السماء فداء له إلا قتل أمة بأسرها"[12].
وهكذا "تدخل الإنجليز
لقتل الثورة فى مهدها، واستطاعوا بخبثهم الاستعمارى أن يستصدروا فتوى من الخليفة التركى
بأن عرابى عاص، ثائر، لا تجوز مساندته. ولكن علماء الأزهر سارعوا فكذبوا الخليفة المضلل،
وأصدروا فتوى بأن عرابى على حق، وأن العمل معه جهاد"[13]، ومن جهتها "أسرعت إنجلترا إلى إنزال قواتها بأرضنا لإرغامنا على قبول
هذا اللون من الحكم الفاسد"[14].
ولم يكن صعبا اصطناع
ذريعة للاحتلال، فإن "حمارا (بتشديد الميم) مالطيا أحدث بعض الشغب، وناله بعض
الأدب كان السبب المباشر لضرب الإسكندرية بقذائف الأسطول. وكان بداية الطريق المشئوم
للاحتلال الإنجليزى المبيت"[15]، وقد "أرسل عرابى إلى غلادستون يهدده -قبيل قذف الإسكندرية- بإعلان الجهاد
العام حسب تعاليم الإسلام. وكان هذا الإعلان كافيا ليفض الأقباط من حوله وينفرهم من
الدفاع عن البلاد!!"[16]، وسارت الأحداث بما لا تشتهي السفن حتى دخلت إنجلترا "وادى النيل لتطفئ
حركة الإصلاح الشعبى التى قام بها أحمد عرابى، وتمكن للفساد السياسى والاجتماعى المنبعث
من القصر الملكى يومئذ"[17].
على هذا النحو "فشلت
الثورة العرابية، ودخل الإنجليز مصر، وما لبثوا حتى أضاعوا السودان، ووضعوا سياسة فصله
عن دولة النيل الكبرى، ثم ضاعت أوغندة، وتبعتها إرتيريا، واطمأنت الصليبية إلى موت
هذه الدولة الكبرى قبل أن تولد، ولعق الإسلام مرارة هذه الهزيمة فى سكون!!"[18].
لماذا فشل عرابي؟ وما كان
يحدث لو نجح؟
يرصد الغزالي ثلاثة أسباب
لفشل الثورة العرابية نراها منثورة في كتابه؛ الأول: هو الضعف، فإن "عرابى
-مهما كان مخلصا قويا- أعجز عن مقاومة القوى الكثيرة التى كادت له فى الداخل، وهجمت
عليه من الخارج. ولكننا لا نزال ننظر بإعزاز وتكريم للمبادئ التى ناصرها. والتى جادل
فى ساحة عابدين عنها"[19]، والثاني: هو سوء فهم التدين، فمن "الأحداث الجديرة بالنظر أن
أحمد عرابي باشا أقام مع رجاله قبيل موقعة التل الكبير حفل ذكر -رقص ديني بالتعبير
الصريح- كى ينصره الله على الإنجليز وكانت النتيجة أن انهزم بعد معركة استغرقت ثلث
الساعة"[20]، والثالث: هو السذاجة، وذلك أن عرابي "وثق بكلمة الأفاق الفرنسى
"دى لسبس" وترك القناة مفتوحة، فبعد أن دحر الإنجليز فى كفر الدوار، وولوا
مدبرين، جاءوا عن طريق القناة، وألحقوا بنا شر الهزائم، ولا يزالون معسكرين حول التل
الكبير منذ هزمونا إلى اليوم. وقد اعتبرنا وفاء عرابى لدى لسبس غفلة يلام عليها أشد
اللوم. وأجمع النقاد على أن وفاءه هنا كان خطأ كبيرا"[21].
وما إن هُزِمت الثورة
العرابية واحتل الإنجليز مصر حتى "بدأت مأساة تزوير التاريخ فأهيل التراب على
دور الإسلام والأزهر فى كفاح المظالم السياسية والاقتصادية، وأطبق الصمت على ما فعله
رجال عظام- ببواعث دينية خالصة- لإحقاق الحق وإبطال الباطل.. والغرض من هذا التآمر
المريب غمر الدين وأهله، حتى يبدو الإسلام وكأنه مخدر للشعوب!! وإنها لخسة محقورة منكورة
أن يجرد الشريف من فضائله، ثم تطرح عليه معايب الآخرين.. ولكن ذلك ما وقع، فقد محيت
الصبغة الدينية عن هذه الثورة وعرضت فى الكتب المدرسية وغيرها مجردة من طابعها الإسلامى،
كما يجرد الدم من كراته الحمراء والبيضاء، فماذا يبقى منه؟؟"[22].
ويتحسر الغزالي على مصير
تلك الثورة الواعدة، ويتأمل النتائج العظمى التي كانت لتحدث لو نجحت الثورة:
"ماذا كان يتم لو أن
ثورة الزعيم أحمد عرابي نجحت واستقر لها الأمر؟ كانت ستقوم دولة عربية إسلامية كبرى
تشمل وادى النيل كله مصر والسودان وأوغندا وإرتيريا. فإن السلطان المصرى كان يمتد حتى
منابع النيل ويشمل فيما يشمل هرر ومصوع. رقعة فيحاء متكاملة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا
إذا واتتها ظروف الحياة الراشدة كونت دولة من أقوى دول البحر الأبيض، وكان لها فى العالم
كله صوت مسموع... أى مستقبل سعيد ينتظر الإسلام إذا قامت هذه الدولة؟ دولة سيشيع فى
ربوعها العدل الاجتماعى، وتتوطد فى أركانها الحريات السياسية"[23].
نشر في مدونات الجزيرة
[1] وقد
نشرتها كاملة في كتابي "في أروقة التاريخ" الجزء الثاني، والصادر عن دار
التقوى في القاهرة (يناير 2018م).
[2] يروي
المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي أن كتابه عن أحمد عرابي صودر في فترة الملكية،
ولم يسمح بنشره إلا بعد انقلاب يوليو 1952 والذي كان محتاجا لكل ما من شأنه أن
يضاد حكم الأسرة العلوية. انظر: عبد الرحمن الرافعي، الزعيم الثائر أحمد عرابي،
(القاهرة: دار الشعب، 1968م)، ص3.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق