هذا ختام سلسلة المقالات
التي تتعرض لرأي الغزالي في زعماء التغيير، بدأنا برأيه في محمد بن عبد الوهاب ثم
أحمد عرابي ثم جمال الدين الأفغاني، ونختم هنا برشيد رضا.. وكان للغزالي كلام طويل
غزير في حسن البنا هو أوسع مما يسمح به المقام.
الشيخ محمد رشيد رضا
غلب الجانب العلمي
والفكري في سيرة الشيخ رشيد رضا على كفاحه السياسي، فرغم كونه ظهر في وقت عصيب، هو
وقت تمكن الاحتلال من الديار المصرية، حيث تمكن الاحتلال الإنجليزي من مصر ولم يزل
رشيد رضا في السابعة عشرة من عمره، فكانت جريدة "العروة الوثقى" التي
يصدرها الأفغاني وعبده من أوائل من حرك همه إلى السياسة وشؤون المسلمين، ثم التقى
بمحمد عبده وصار رفيقه، ورغم انصراف محمد عبده إلى شأن التربية والتعليم والإصلاح
بعد رجوعه إلى مصر دون اشتباك بشأن السياسة إلا أن مجلة المنار –التي صدرت قبل سبع
سنوات من وفاة محمد عبده، واستمرت سبعة وثلاثين عاما حتى وفاة رشيد رضا- هي وثيقة
تاريخية حافلة بالهم السياسي الواسع لرشيد رضا، والمتابعة الوافرة لشؤون المسلمين
عبر العالم.
إلا أن شأنه لم يكن فقط
الكتابة، فلقد شارك في المؤتمرين الإسلاميين المنعقدين في مكة (1926م) والقدس
(1931م)، ولعب دورا في كفاح سوريا السياسي، فقد كان في حزب اللامركزية قبل 1914،
وفي المفاوضات التي جرت أثناء الحرب مع البريطانيين، ورأس المؤتمر السوري (1920م)،
وكان عضوا بالوفد السوري الفلسطيني إلى جنيف (1921م)، وفي اللجنة السياسية في
القاهرة عند وقوع الثورة السورية عامي 1925و 1926م[1]. ولهذا النشاط السياسي وضعنا رشيد رضا ضمن زعماء التغيير في دراستنا هذه،
مع أن الشيخ الغزالي لم يتناول إلا الجانب المشتهر منه، وهو الجانب العلمي الفكري،
وهو كثيرا ما يتناوله ضمن موقعه من مدرسة الأفغاني ومحمد عبده.
ولقد بلغ تقدير الغزالي
لرشيد رضا أن يسبغ عليه وعلى مدرسته هذا الوصف الكبير، يقول: "كان محمد رشيد رضا
ترجمان القرآن وشارة السلفية الصحيحة والمفتى العارف بأهداف الإسلام والمستوعب
لآثاره"[2]، وإن "مدرسة المنار هى المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية الحاضرة،
وعلى الذين يرفعون القواعد من هذا المهاد أن يتجنبوا بعض الهنات التى فات فيها الصواب
إمامنا الكبير، فما نزعم عصمة له أو لغيره"[3].
كانت مجلة المنار النموذج
الذي يرتضيه الغزالي للقيادة العلمية، ويقر بفضلها عليه، يقول: "أتردد على تفسير
المنار بين الحين والحين لأتعلم منه ما لم أكن أعلم وهو فى نظرى موسوعة ثقافية موارة
بالأبحاث التى تشمل الدين كله"[4]، وذلك لأن رشيد رضا كان علامة كبيرا فقد "استوعب مذهب المفسرين، من تفسير
بالأثر إلى تفسير فقهى، إلى تفسير كلامى، ومن المختصرات إلى المبسوطات، ثم ضم إلى ذلك
علما بآراء المذاهب الفقهية الكثيرة، إلى تقعيدات الأصوليين الذين نبغوا فى شتى العصور،
إلى ما جد فى العالم الإسلامى بعد احتكاكه بالمجتمعات الحديثة"[5].
ويجمل الغزالي وصفه لمنهج
رشيد رضا وطريقته في قوله: "بذلت مدرسة المنار جهوداً متصلة لتصحيح المعرفة الدينية،
فحاربت التقليد المذهبي الجامد كما حاربت الأحاديث الضعيفة وضبطت داخل الهداية القرآنية
الأحاديث الصحاح ، وطاردت قضايا كلامية، وتضليلات سياسية.. واستطاع محمد رشيد رضا أن
يسوق توجيهات محمد عبده وسط حشد مِن الآثار المحررة. بَيْدَ أن قوى شريرة من الداخل
والخارج اعترضت هذا الخير الدافق"[6].
وتكرر في كلام الغزالي
إدراجه الشيخ رشيد مع أستاذه محمد عبده وأستاذ أستاذه الأفغاني، وهم عنده "من
أعمدة اليقظة الإسلامية فى العصر الحديث"[7]، ومدرستهم "من أجلّ المدارس الفكرية فى تاريخ الإسلام"[8]، وهم "قادة الفكر الواعى الذكى فى القرن الأخير. والنقيق العالى الذى يثور ضدهم هو
من أشخاص علمهم بالإسلام سطحى ودفاعهم عنه دفاع الدبة التى قتلت صاحبها"[9].
ما يؤخذ على الشيخ الغزالي
بعد هذا الجمع والتفكيك
والتركيب الذي استخرجناه من كلام الغزالي المنتثر في سائر ما وصلت إليه أيدينا من
الكتب نستطيع أن نبصر منهج الغزالي في تناول زعماء التغيير، وهو أن يبدأ بشرح
الظروف السائدة في وقته، ثم يثني بصفاته الشخصية وأخلاقه ومواهبه، ثم يتحدث عن
مجهوده وحركته وآثاره، ثم إن كان الأمر يحتاج إلى اشتباك مع الطاعنين فيه فَعَل
فدافع عنه.
لكن أبرز ما يؤخذ على
الشيخ في هذا الباب أنه لم يكن له بحث محرر في تجربة من تلك التجارب، إنه يعترض
لها في سياق الفكرة العامة التي يريد توصيلها، ولهذا يُرهق من يحاول أن يجمع وراءه
كلامه في الرجل الواحد ويعيد بنائه، لكن الإشكال ليس في إرهاق من يجمع إنما في أنه
لم تكن ثمة صورة كلية بناها الغزالي مرة واحدة فيُمكن محاكمتها إلى معايير دراسة
التجارب التاريخية وفهمها ونقدها. ولذلك يكثر في أحكامه ما لا يمكن فهم طريقة
بنائه له، ولا المعلومات التي توفر عليها ليخرج بهذا الحكم. وهنا بطبيعة الحال لا
نطلب من الشيخ أن يتحول إلى مؤرخ محقق لتحرير وقائع تاريخية فليس هذا بابه، وإنما
المقصود أن يكون حديثه عن تجارب زعماء التغيير حديثا واضحا مكتمل الصورة علمي
العبارة لا أحاديث منتثرة تهيمن عليها اللغة الأدبية العاطفية، فإن الصورة وإن
كانت واضحة لدى الشيخ فلا تصل بنفس الوضوح لتلاميذه وقارئيه بتلك الوسيلة.
وقد انبنى على هذا المأخذ
الرئيسي ثلاثة مآخذ فرعية:
الأول: أنه لم يُبِن
موقفه من إشكالات كبرى في تلك التجارب كالمسوغات الشرعية للتوسعات الوهابية
وتعاملها مع القبائل والبلدان التي وقعت في بعض مظاهر الشرك وما ينبني على هذا من
التكييف الشرعي لقتالهم واستباحة أموالهم وغنائمهم، وما رأيه في سواغ الخروج على
الدولة العثمانية في مناطقها لأنها متخلفة أو متراجعة أو تعتنق بعض مظاهر الشرك في
حين تقوم بمواجهات مع جبهات أعداء الإسلام. ومسألة الجانب السياسي من الشيخ محمد
عبده وعلاقته بالإنجليز وبالنخبة المتكونة حولهم وما مدى الاضطرار الحاصل في مسألة
الإصلاح عبر سلطة غير شرعية فضلا عن أن تكون سلطة احتلال.
الثاني: أنه في غمرة
تحمسه لبعض الزعماء قطع بأمور لم تكن صحيحة كمسألة أن العثمانيين كانوا لا يدرون
شيئا عن العالم، أو أن سنتهم في الحكم كانت قتل الإخوة حتى الرضع منهم، وهو ما لم
يكن صحيحا بحال، ولا ريب أن البحث في أسباب التخلف يحتاج نقاشا أعمق ولا ينفع أن
يُكتفى فيه بعبارات موهمة غامضة.
الثالث: أنه لم يحلل أبدا
تجربة فشل أولئك الزعماء، وكيف أخفق كل منهم في الوصول إلى ما يصبو، فهو إن تناول
الأمر تناوله بعبارات مقتضبة تهيمن عليها أيضا لغة أدبية عاطفية حارة، أو تكتفي
بذكر سبب هامشي أو عرضي. نعم، لا ريب أن الاستعمار تآمر وقوى الشر عملت على إجهاض
عمل المصلحين لكن الشيخ الغزالي نفسه قد أفاض كثيرا في ضرورة دراسة الأسباب
الذاتية في الإخفاق قبل دراسة الأسباب الخارجية، لكنه لم يطبق الأمر على الزعماء
الذين احتفى بهم، وكان ينبغي أن يكون له وقفة ودرس في تحليل نتائجهم: لم فشل كل أولئك
فيما حاولوا.
قال مرة: "السبب فى فشل
جمال الدين وعجزه عن بلوغ غايته أن الاستعمار الفكرى استطاع خلق عدد كبير من أمثال
هذا الشرقاوى[10] التافه يكره الإسلام، يرى عمق الإيمان به تهمة تشين صاحبها!! ولو كان جمال
الدين من دعاة اليهودية أو النصرانية ما جرؤ أحد على تناوله بهذا الأسلوب! ولكنة من
دعاة الإسلام المهيض الجناح، الذى يستنسر بأرضه البغاث"[11]، وهذا في النهاية كلام ينفع في معرض إدانة الغزو الفكري وعمل الاستعمار
لكنه لا ينفع في فهم كيف أخفق جمال الدين، بل كان من شأن بحث الموضوع أن يفتح
العلاقة بين السلطان عبد الحميد الثاني وجمال الدين الأفغاني وهو ما كنا سنفهم منه
تقييما أوضح وأعمق لشخصية وتجربة عبد الحميد كما يراها الشيخ الغزالي.
وغني عن القول أن المآخذ على الكبار لا تنقص من قدرهم، بل إن الحرص على ذكر هذا النوع من الاعتذار ربما دل على مراهقة علمية، فلا زال الآخر يستدرك على الأول وإن لم يقاربه في علم ولا مقام، فلا يُنزل استدراكه من قدر الكبير ولا يرفع بالضرورة من قدر الصغير.
نشر في مدونات الجزيرة
[10] محمود
الشرقاوي، من حملة الدكتوراة من الأزهر، كانت رسالته بعنوان "الدين
والضمير" وفيه نعى على جمال الدين الأفغاني أنه دعا إلى تجديد الخلافة لأن
الدولة الدينية لا يدعو إليها من كان لديه عقل وحرية وضمير، وأرجع سبب
"ضلال" الأفغاني في دعوته إلى الجامعة الإسلامية لقوة عاطفته الدينية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق