الخميس، مارس 15، 2018

كيف عاش اليهود في الدولة العثمانية


ذلك هو المقال الخامس من سلسلة المقالات المستمرة التي تقارن بين أوضاع اليهود في ظلال الأمة الإسلامية، وبين أوضاعهم التي عاشوها في ظلال الأمم الأخرى، وآثرنا أن تكون مادة المقالات جميعها من مؤرخين غربيين ومستشرقين كي تكون الحجة أبلغ. استعرضنا في المقال الأول نظرة عامة، وفي المقال الثاني تناولنا أحوالهم في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي المقال الثالث تناولنا أحوالهم في عصر الدولتين الأموية والعباسية، وفي المقال الرابع أحوالهم في ظل الأندلس، ونتناول في هذه السطور أحوالهم في ظل الدولة العثمانية.

يسجل المستشرقان البريطانيان هاملتون جب وهارولد باون لحظة ما بعد فتح القسطنطينية، على هذا النحو: "سمح الفاتح لهم (اليهود) بالاستقرار في اسطنبول، وعيَّن الحاخام باشي، أو الحبر الأعظم، الذي مُنِح سلطات مشابهة لتلك التي مُنِحت للبطريرك، على جميع تابعيه في الإمبراطورية. تمتع الحاخام في الواقع بمكانة تفوقت على مكانة البطريرك وتلت مباشرة مرتبة رئيس العلماء، ومن خلال ذلك أصبح موقف اليهود أفضل بشكل عام"[1].

لهذا، وكما يقرر المستشرق اليهودي الصهيوني المتعصب برنارد لويس، فإن "معظم اليونانيين الذين كانوا غادروا المدينة قبيل الفتح قد عادوا إليها إلا القليل منهم، وجاء الآخرون من جميع أنحاء الإمبراطورية ليشاركوهم، وشكل هؤلاء جالية غنية تحت زعامة بطريركهم. وقد ازداد عدد اليهود أيضا، والذين كانوا موجودين من قبل في العاصمة البيزنطية"[2]، ويُفَصِّل في نمو وتطور الجالية اليهودية في ظل الدولة العثمانية، فيقول: "استطاع اليهود كسب ود المسلمين، وأصبح لهم ميزة على المسيحيين، فكان الأتراك يثقون كثيرا بذكائهم اللماح، ومهاراتهم في القضايا السياسية والاقتصادية الحساسة... وكان اعتماد الدولة التركية في الاتصال بالغرب على اليهود أكثر من اعتمادهم على أي طائفة أخرى مثل اليونانيين أو الأرمن. وهكذا تمكن اليهود بذكائهم من إقامة وتطوير مستعمرة تجمع التكتل اليهودي في مدينة سالونيكا بعد فتح العثمانيين لها، حيث تمكنوا من الاستفادة من هذه البقعة والميناء البحري الاستراتيجي المهم، وهكذا يمكنك أن تلاحظ أنه خلال القرن السادس عشر استطاع اليهود الأوروبيون الظهور بالمظهر المشرف في الدولة العثمانية، حيث أظهروا مهارات وقدرات تمكنهم من أداء الخدمات الخاصة والمهمة، لذلك كانوا يؤدون بعض الأعمال الخاصة لملوك مصر الذين كانوا يستعينون بخبرتهم ومعرفتهم باللغات الأوروبية، ومن ثم كانت تُعهد إليهم المهام الخاصة بالأنشطة الدبلوماسية، وأصبح لهؤلاء اليهود حق التنقل بحرية تامة، والاشتغال بالتجارة تحت حماية الدولة العثمانية"[3].

يؤكد على ذات هذا المعنى الباحثُ اليهوديُّ ميخائيل فينتر، فيقول: "وعلى الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية كانت دولة إسلامية سنية متشددة مثلها مثل السلطة المملوكية إلا أنها كانت دولة مستنيرة عملت على التحلي بمفاهيم العصر. ولقد أدى الدمج بين النظرة الأساسية المتزنة للسلطان ورعاياه وبين المنظور العلمي العقائدي، إلى تحسن وضع اليهود في كافة أنحاء الإمبراطورية، فتقلد اليهود في مصر العثمانية بعض المناصب الرفيعة في وزارة الخزانة. وصحيحٌ أن وضع اليهود في فترة المماليك الشراكسة (1382 – 1517) كان مُعزَّزًا في الإدارة قياسا بفترة المماليك الأتراك (البحريين) (1250 – 1382)، وذلك على الرغم مما قلناه من قبل عن وضعهم العام في الدولة المملوكية، إلا أن الفترة العثمانية دفعت، على الأقل باليهود الذين عملوا في وزارة الخزانة إلى قمم لم يعرفوا لها مثيلا من قبل، أو على الأقل منذ الحكم الفاطمي في العصور الوسطى"[4].

وفي الحقيقة يمكن إجمال وضع اليهود في تلك الفترة بكلمة ج. ه. جانسن: "عاش اليهود تحت الحكم العثماني بسلام، لكنهم كانوا يلاقون دوما في أوروبا الشرقية تمييزا وكراهية قوية كانت تتفاقم من وقت لآخر لتنتهي بالمذابح"[5]، ولهذا انتهت الدولة العثمانية، كما يقول بروكلمان، "إلى أن تصبح ملجأ للحرية الدينية بالنسبة إلى اليهود المطرودين من إسبانيا والبرتغال عند منبلج القرن السادس عشر. فما وافت سنة 1590 على وجه التقريب، حتى بلغ عدد سكان الحي اليهود في اسطنبول نحوا من عشرين ألفا، واتخذ اليهود سبيلهم إلى قصر السلطان، بادئ الأمر، بوصفهم مضحكيم ومشعوذين... ولكنهم عرفوا، إلى ذلك، كيف يفرضون أنفسهم على البلاط بوصفهم أطباء"[6].

ولم يكن أطباء القصر مجرد أطباء، كما يشير برنارد لويس، فعلى سبيل المثال "كان مانويل برودو واحدا من بين الأطباء اليهود، ذوي الأصل الأوروبي، الذين عملوا في خدمة السلطان، وأصبحوا على قدر كبير من الأهمية حتى أن أرشيف القصر العثماني يدلنا على وجود طاقمين منفصلين من أطباء البلاط، أحدهما مسلم والآخر يهودي.... لقد لعب عدد من هؤلاء الأطباء دورا سياسيا مهما؛ فاقترابهم من رجال السلطان ووزرائه ومعرفتهم باللغات الأوروبية والأحوال الأوروبية جعلهم نافعين للحكام الأتراك والرسل الأجانب، وقد مكنهم ذلك من إحراز مناصب نفوذ وقوة، حتى إن بعضهم كان يُرسل إلى الخارج في مهمات دبلوماسية"[7].

وهكذا كان وجود الدولة العثمانية من أسباب السعد التاريخية الكبرى على اليهود، ليس فقط على مستوى إنقاذهم من الإبادة بل على مستوى إنعاش وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما يقرره المستشرق الفرنسي المعروف أندريه ريمون بقوله:

"إن إنشاء الإمبراطورية العثمانية كان له بصفة عامة أثر إيجابي على مركز اليهود. وقد لجأ العديد من اليهود إلى البلاد الإسلامية للاحتماء بعد طردهم من إسبانيا أو هروبهم منها وذلك خلال الفترة بين عامي 1492م و 1496م ثم في القرن السادس عشر... وقد مارس اليهود في المدن العربية الكبيرة حيث تمركزت جاليتهم أنشطة متنوعة: من المعروف أن أشغال المعادن الثمينة وأعمال الصرافة هي مهنتهم التقليدية. وفي القاهرة كانت حارة اليهود تقع في قلب المدينة بجوار الصاغة، كما كان اليهود يعملون أيضا في دار سك النقود. وكانوا يقومون بدور نشيط في التجارة الخارجية إذ كانوا يصدورن المنتجات المحلية ويستوردون المنتجات الأوروبية، وذلك بفضل علاقاتهم مع اليهود الأوروبيين. وتمكنوا بفضل  رؤوس الأموال التي جمعوها من القيام بأنشطة بنكية في البلاد التي كانت البنوك فيها غير متطورة"[8].

بقي لنا مقال سادس وأخير نختم به هذه السلسلة، فالله الموفق والمستعان.





[1] هاملتون جب وهارولد باون، المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة ودراسة: أحمد إيبش، ط1 (أبو ظبي، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، 2012م)، 2/308.
[2] برنارد لويس، اسطنبول: وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة وتعليق: سيد رضوان علي، ط2 (جدة: الدار السعودية، 1982م). ص135.
[3] برنارد لويس، اكتشاف المسلمين لأوروبا، ترجمة: ماهر عبد القادر، ط1 (القاهرة: المكتبة الأكاديمية، 1996)، ص122، 123.
[4] ميخائيل فنتر، علاقات اليهود مع السلطان والمجتمع غير اليهودي، ضمن: "تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية" تحرير: يعقوب لاندوا، ترجمة: جمال أحمد الرفاعي وأحمد عبد اللطيف حماد، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000)، ص472.
[5] ج. ه. جانسن، الصهونية وإسرائيل وآسيا، مرجع سابق، ص16.
[6] كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، مرجع سابق، ص489، 490.
[7] برنارد لويس، اكتشاف المسلمين لأوروبا، مرجع سابق، ص266.
[8] أندريه ريمون، المدن العربية الكبرى في العصر العثماني، ترجمة: لطيف فرج، ط1 (القاهرة: دار الفكر للدراسات، 1991م)، ص84، 85.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق