على
غير ما يتوقع الكثيرون، فقد احتفى الشيخ
الغزالي بالحركة الوهابية وزعيمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب حفاوة كبيرة، ورآها
ردة فعل إسلامية على ما ساد الدولة العثمانية وقتها من ظروف الانحراف، وقدر
لزعيمها محمد بن عبد الوهاب غيرته الشديدة على التوحيد، وإنفاق الحركة طاقتها
ومجهودها في تنقية العقيدة وإزالة الخرافات والأوهام التي علقت بأذهان الناس
وقلوبهم، ويُفهم من بعض عبارته أن أتباع محمد بن عبد الوهاب لو تخلوا عن التشدد
والغلو لما كان للحركة أن تُهزم.
وكنا ذكرنا في مقال سابق منهج الشيخ
الغزالي وطريقته في التفكير وميزانه في تقييم للرجال، وكيف أنه بهذا المنهج قد
اجتمع عنده في ميزان المصلحين من قد يُحسب أنهم متنافرون ومختلفون. وفي هذه السطور
سنستعمل عبارات الغزالي مع الحد الأدني من التدخل للربط بينها، فالممارس لكتب الغزالي
يعرف أن أغلب إنتاجه دفقات أديب، فالموضوع الواحد متناثر في كتبه مستلزم للمجهود
في تتبعه.
1. زمنه وبيئته
يعدد الغزالي ظروف العالم الإسلامي المخيمة في تلك
الفترة فيقول: "كان الجهل الغليظ يلف كل شيء، وكانت عجمة الدولة سبباً في تخلف
المسلمين دينيا ومدنيا، وانتشرت البدع والخرافات، وتحول الإسلام إلى رسوم ميتة، وأحاديث
واهية أو موضوعة، وكَثُرَتْ صور الشرك الجلي والخفي، وأعلن التصوف الجاهل على هذا كله
إذ أن طرقه دخلت كل مدينة وقرية. ومن الناحية المدنية العامة توقف الركب الإسلامي في
مكانه، لا يدري وراء حدوده شيئا بينما العالم يفور ويمور بحركات وفلسفات جديدة غيرت
نظم الحكم، وكشفت المجهول من القارات، واستعملت قوى الكون وأسراره فى تجديد حياتها
وأسلحتها، وقد ورث الحكم العثماني سيئات الحكم الفردى فى الدول الإسلامية السابقة وضم
إليها جديدا من الجبروت والاستعلاء، وربما قتل السلطان جميع إخوته حتى لا ينازعوه السلطة،
ومنح السلطان امتيازات أجنبية للطوائف النصرانية المختلفة جعلها دولة داخل الدولة،
واستغل الأعداء ذلك أسوأ استغلال. ومع أننا نعيب على العرب تقاعسهم في خدمة الثقافة
الإسلامية الصحيحة إبان هذه القرون الهامدة من الحكم التركي، إلا أننا نذكر أن الحركة
الوحيدة التي نهض بها العرب لإصلاح العقائد والعبادات ومحو ما شابها من زيغ وانحراف
قاومتها الدولة بالسيف حتى أجهزت عليها.. نعني حركة الإصلاح التي قام بها محمد بن عبد
الوهاب في جزيرة العرب"[1].
2. صفاته
في تلك الأجواء خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، "وهو
من هو غيرة على عقيدة التوحيد ودفاعا عنها"[2]، وقد
عُرف "بين الناس بأنه داعية غيور على عقيدة التوحيد، يحب أن يمحو من الأذهان أن
هناك وساطة ما بين الخالق والمخلوق"[3]،
ولقد كان "يعلم أن الإسلام عقيدة ونظام. وأنه دين يتعامل مع النفس والمجتمع والدولة"[4].
3. كفاحه وآثاره
من هنا بدأت "الحركة السلفية التى قادها فى القرن الماضى
محمد بن عبد الوهاب، إن كل غيرة على التوحيد مشكورة، وكل جهد لتنقية العقائد من الشوائب
والأقذاء مقدور! ونحن نأبى الإغضاء عن مسالك أقوام يرهبون الأموات أو الأحياء أكثر
مما يرهبون الله، ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من الله سبحانه.. وما أعرف مسلما ذا
عقل يخاصم هذه الحقائق أو يعترض أصحابها"[5]،
وحيث كانت "الظروف التي يواجهها هي التي تحكم عليه بمنهج معين يتخصص فيه ويُعرَف
به. رفع محمد بن
عبد الوهاب شعار التوحيد، وحُقَّ له أن يفعل؛ فقد وجد نفسه في بيئة تعبد القبور، وتطلب
من موتاها ما لا يُطلَب إلا من الله سبحانه"[6].
ومن ثَمَّ "فليس معنى هذا أنه استوعب تعاليم الإسلام
كلها إيضاحا وتبيانا.. إن هناك مصلحين آخرين أمكنهم أن ينصفوا جوانب أخرى من الدين
نالها الغمط وغطاها الجهل. واهتمام ابن عبد الوهاب بأمر العقيدة ضرب من التخصص العلمى
أملى به المزاج النفسى وأوحت به ضروريات البيئة"[7].
"الواقع أن حركة ابن عبد الوهاب من الناحية العلمية
سليمة، وقد تكون الوسائل الرديئة[8] هي التي
هزمتها"[9]،
"ولو رزق محمد بن عبد الوهاب أتباعا ذوى حكمة وبصيرة لكانت الأقطار التى انفتحت
له أضعاف مساحتها الآن.. إن الدعاة المصابين بضيق الفطن، واصطياد التهم، وشهوة الغلب
يضرون أكثر مما ينفعون"[10].
هذه شهادة رجل هو من أكثر الناس انتقادا لمسلك السلفية
المعاصرة، بل ربما يُعَدَّ من ضمن أعدائها، وكم كان بينه وبينهم سجالات عنيفة، وهو
أمر لا يفسر إلا في ضوء ما قدَّمناه من قبل عن منهج تفكير الغزالي.
والواقع أن الحركات الإسلامية في مثل حال الأمة هذا
تحتاج أن تتعامل مع خلافاتها كتوظيف يتجه إلى التكامل والتضافر، ولعل الأمة لم تؤت
من بابٍ أشد وأقسى مما باب تنازع وتفرق العاملين للدين حتى إن بعضهم وظفته الأنظمة
الاحتلالية والاستبدادية ليعمل ضد البعض الآخر، وما درى المساكين أنهم يطعنون
أنفسهم حين كانوا يطعنون إخوانهم، ثم لم يجن الغالب شيئا بعدما أقصي صاحبه، بل
دارت عليه دائرة النظام فصار من المذبوحين إما بيد النظام وحده أو بيد النظام
المتحالف مع فصيل إسلامي آخر!!
وباستقراء الواقع فإن الذين يحملون همَّ الدين والعمل له
هم أكثر الساعين إلى الاستفادة من كل الطاقات والباذلين الجهود في إصلاح ذات البين
وتقريب المسافات، بينما من انصرف عن همِّ الأمة فاعتزل في كهفه العلمي أو محضنه
التربوي أو مكتسبه الحزبي أو محرابه التعبدي فإنه يتضخم لديه قيمة ما يفعل ويحقر
من شأن غيره وعمله.
وفي هذا المعنى يقول الشيخ عبد الله عزام: "بالمعايشة
مع الإنصاف يمكن أن تذوب كثير من الخلافات بين الجماعات وتنصهر الطاقات من شتى
المآرب والدعوات في بوتقة العمل الواحد، وعلى حرارة الأحداث وسخونة الوقائع
والمشكلات. وبالمعايشة فوق أرض المعركة تبددت كثير من الأوهام، وزال كثير من الغبش
واللبس الذي نشأ في الظلام، وأدرك الإنسان أن العمل الجدي الواقعي غير الأحلام
العذبة التي تداعب الخيال، وإن الآمال لا بد لها من عظام الرجال لينقلوها إلى
وقائع وأفعال. وبالتجربة الحية الواقعية أدركت أن الجماعات
الإسلامية يكمل بعضها بعضا، ولا غنى عن التعاون على البر والتقوى، ولا يمكن لأي
حركة أن تقيم مجتمعا إسلاميا بدون الاستفادة من طاقات المسلمين، وأن تكسب كل ذرة
خير تستطيعها في صالح العمل الإسلامي ابتغاء مرضات الله"[11].
نشر في مدونات الجزيرة
[1] الغزالي، الدعوة
الإسلامية في القرن الحالي، (القاهرة: دار الشروق، 1998م)، ص50 باختصار.
وانظر: الغزالي، معركة المصحف، ص162 وما بعدها.
[6] الغزالي، مائة
سؤال عن الإسلام، ط4 (القاهرة: دار نهضة مصر، يوليو 2005م)، ص270؛ الغزالي، معركة
المصحف، ص162، 163.
[8] أغلب
الظن، وهو ما يوحي به سياق العبارة، أن المقصود بالوسائل الرديئة هي ما استعملته
الدولة العثمانية وجيش محمد علي في تحطيم الحركة الوهابية، وقد تُحمل العبارة بنوع
تكلف على وسائل الحركة الوهابية نفسها في الانتشار.