ذلك هو المقال الرابع من سلسلة المقالات المستمرة التي
تقارن بين أوضاع اليهود في ظلال الأمة الإسلامية، وبين أوضاعهم التي عاشوها في
ظلال الأمم الأخرى، وآثرنا أن تكون مادة المقالات جميعها من مؤرخين غربيين
ومستشرقين كي تكون الحجة أبلغ. استعرضنا في المقال الأول نظرة عامة، وفي المقال
الثاني تناولنا أحوالهم في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي المقال الثالث
تناولنا أحوالهم في عصر الدولتين الأموية والعباسية، وفي هذه السطور نرى كيف عاشوا
في ظل الأندلس. وبداية يجب العلم بأن فتح المسلمين للأندلس أنقذ اليهود فيها من
الإبادة[1]، كما أن سقوط المسلمين من الأندلس كان افتتاحا لعصر
الإبادة التي شملت المسلمين واليهود معا في محاكم التفتيش الرهيبة التي فرضت
الكاثوليكية على سائر من في شبه الجزيرة.
يلخص اليهودي الصهيوني ليفي أبو عسل حياة اليهود
في الأندلس بقوله:
"ولوا (اليهود) وجههم شطر الأندلس، ثم
اقتفى أثرهم جماعات من يهود مصر، فنزلوا ضيوفا على أمراء العرب المسلمين، ولجأوا
إلى سخائهم الفطري، وكرمهم الحاتمي، ولم يكن من هؤلاء الأجاويد إلا أن أحسنوا
ضيافتهم، وأكرموا وفادتهم، وأنزلوهم بين ظهرانيهم، وأحاطوهم بشيء كثير من العطف
والعناية، فرفلوا في مروط المرح، وطاب عيشهم نالك، واستمرأوا لذة الحياة وعذوبة
المعيشة بعد طول الإحن التي ألمت بهم والكوارث التي ساورتهم، وهكذا سكن ثائر
روعهم، وانقشعت غياهب بؤسهم، فأنشأوا معهدا علميا فخما. كان كعبة العلماء ومحط
رحال الشعراء وقبلة الأدباء ونطس الأطباء، وأسفر ذلك التضافر العلمي والاجتماعي
والتعاون العقلي والأدبي عن إبراز نفائس العلوم وكنوزها وتحف الفنون ورموزها،
نفائس تسامى ذكرها، وتعالى قدرها، وطبق صيت مؤلفيها الآفاق، وشهرة واضعيها
العالمين"[2].
ويضرب المستشرق الألماني كارل بروكلمان بعض
الأمثلة على هذا، فيقول: "شارك اليهود في هذه الحياة الثقافية (في الأندلس)
مشاركة فعالة، والواقع أنهم كانوا [قبل الفتح الإسلامي] منبثين في طول البلاد
وعرضها بين القوط، وأنهم عملوا في خدمة أمراء النصارى كموظفين ماليين. فلما آلت
مقاليد الدولة الأموية إلى عبد الرحمن الثالث (الناصر) عهد إلى طبيبه اليهودي
حسداي بن شبروط بشؤون المال أيضا. ليس هذا فحسب، بل لقد استطاع أحد اليهود،
إسماعيل بن نغرالة أن يبلغ منصب الوزارة في ظل الأمير البربري حبوس الذي استولى
على الأمر في غرناطة حوالي سنة 1024- بعد أن اعتزل الحكم عمه زاوي بن زيري- والذي
دام عهده حتى سنة 1038. وهكذا خلعت عليه الجالية اليهودية، وكانت كثيرة العدد هناك
منذ العصور القديمة، لقب "ناجد" الخاص بالأمراء"[3].
وبالجملة، كما تقول الراهبة السابقة والباحثة في
الأديان كارين أرمسترونج، فقد "كانت العلاقات طيبة في العادة بين المسلمين والمسيحيين،
وكان المسلمون يسمحون للمسيحيين، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في
أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وكان معظم أهل إسبانيا يعتزُّون بانتمائهم إلى تلك الثقافة
الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوربا سبقًا يُقاس بالسنين الضوئية، وكان كثيرًا ما يُطْلَق
عليهم المستعربون"[4]،
فالثابت من التاريخ، كما يقول المستشرق البريطاني الخبير مونتجمري وات، "هو أن
المسلمين والمسيحيين واليهود في الدولة العربية أثناء تلك الحقبة اختلطوا بعضهم ببعض
في حُرِّيَّة تامَّة، وكان لكل فئة منهم نصيب كامل من الثقافة المشتركة"[5].
ولم يكن هذا ليحدث لولا تفوق الإسلام على
المسيحية، كما يقول الباحث والناقد الأديب الإسباني أميركو كاسترو: "يمكن أن
نفهم تاريخ باقي دول أوروبا دون الحاجة لوضع اليهود في المقام الأول، أما في
الحالة الإسبانية فالوضع مختلف، فالوظيفة
الرئيسية للإسبان العبريين لا تنفصل عن ظروف التعايش والتلاحق مع التاريخ الإسباني
الإسلامي، وكانت العربية العربية هي اللغة المستخدمة بين عمالقتهم (نذكر هنا ابن
ميمون) ورغم ذلك كانوا يكتبونها بالحروف العبرية، ومن الواضح أن تفوقهم على
أقرانهم في أوروبا يرتبط بتفوق الإسلام على المسيحية خلال الفترة من القرن العاشر
وحتى الثاني عشر، ولولا احتكاكهم بالإسلام لما عنوا بالفلسفة الدينية"[6].
وإن أي مقارنة بين العهد الإسلامي وبين ما سبقه
وما تلاه ستكون كاشفة، أو كما تقول زيجريد هونكه: "بينما عاشت النصرانية في ظلِّ
الحكم الإسلامي قرونًا طوالاً -في الأندلس، وفي صقلية، والبلقان- فإن انتصار النصرانية
على الإسلام -في الأندلس سنة (1492م) - لم يَعْنِ سوى طرد المسلمين واليهود، واضطهادهم
وإكراههم على التنصُّر، واستئناف نشاط محاكم التفتيش، التي قامت بتعقُّبِ كلَّ مَنْ
يَتَّخِذَ سوى الكاثوليكية دينًا، والحرقِ العلني -في احتفالات رسمية تحفُّها الطقوس
والشعائر الكنسية- لكل من اعتنق الإسلام أو اليهودية"[7].
وإن من أبلغ الأدلة على ما لقي اليهود من المعاملة الحسنة أنهم هرعوا إلى
تعمير مدينة فاس حين إنشائها، حتى لقد بلغت الجزية التي يدفعها اليهود –ومن معهم-
ثلاثين ألف دينار في السنة، وهو دليل على كثر عدد اليهود، أو على غناهم لو قُلْنا
بقلة عددهم، وكلا الاحتمالين ينفيان احتمال اضطهاد اليهود[8].
في المقال القادم إن شاء الله تعالى ننظر في أحوال اليهود في ظل الدولة العثمانية، فالله المستعان.
نشر في مجلة المجتمع
[1] ج. ه.
جانسن، الصهونية وإسرائيل وآسيا، ترجمة: راشد حميد، سلسلة كتب فلسطينية 39
(بيروت: مركز الأبحاث – منظمة التحرير الفلسطينية، سبتمبر 1972م)، ص16.
[3] كارل
بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط5
(بيروت: دار العلم للملايين، 1968)، ص315.
[4] كارين
أرمسترونج، سيرة النبي محمد، ترجمة: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، ط2
(القاهرة: سطور، 1997)، ص32.
[5] مونتجمري
وات، فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ترجمة: حسين أحمد أمين، ط1
(القاهرة: مكتبة مدبولي، 1983)، ص67.
[6] أميركو
كاسترو، إسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود، ترجمة: علي إبراهيم
منوفي، ط1 (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003)، ص537.
[8] ابن أبي
زرع، الأنيس المطرب وروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس،
(الرباط: دار المنصور، 1972م)، ص36.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق