لو لم يكن نص القرآن محفوظا من عند الله لكان الذين
حرفوه وبدلوه هم المسلمون أنفسهم لا أعداؤهم!
ربما تكون هذه مفاجئة للأكثرين، لكن الواقع أن هذا هو ما
كان سيكون، فكذلك فعلت الأمم السابقة بكتبها، هم من بدلوه وغيروه وليس أعداؤهم!
ولو لم يحدث هذا لشهوة حاكم أو لانحراف عالِم لحدث للأمة
في وقت استضعافها، ففي ذلك الوقت يُنتج المهزومون نفسيا نسخة من الإسلام توافق
وتتماهي مع الثقافة الغالبة، يحاولون بها التوفيق بين أصولهم وجذورهم الإسلامية
وبين إكراهات وضغوط الواقع الذي يمتحن دينهم ويضعهم في قفص الاتهام!
ها نحن في زمن استضعاف، وكثير من الناس، بمن فيهم
محسوبون على المشيخة والعلماء يعملون بكل جد واجتهاد في إنتاج نسخة من الإسلام
توافق الثقافة الغربية الحديثة ذات السطوة والهيمنة، ويمكنك ببساطة أن تعرف هؤلاء
من طريقتهم في التعامل مع النصوص.. فإذا كثر في كلامه رد النص أو تأويله أو تمييعه
أو صرفه عن وجهه إلى معانٍ أخرى فأغلب الظن أن هذا من هؤلاء الذين نتحدث عنهم.
لنضرب مثليْن:
1. حين سادت الثقافة الشيوعية الاشتراكية في بلادنا،
اضطر جمهرة من المشايخ والعلماء إلى بيان ما في الإسلام من عدالة اجتماعية وتكافل
ومحاربة للغنى الفاحش وفرض للزكاة على الأغنياء باعتبارها حقا للفقراء، وافتخروا
بأن أبا بكر حارب مانعي الزكاة لأنها حق الله الذي قرره للفقير.
إلى هذا الحد والأمر مفهوم وطبيعي وهو استجابة للتحدي
الشيوعي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف فزعم مثلا أن رأي أبا ذر (وقد كان
يرى ألا يحتفظ المرء إلا بقوت يومه، وما زاد على هذا فهو اكتناز) هو منهج الإسلام
مع أن أبا ذر هو المخالف في هذه المسألة لبقية الصحابة، فعمدوا إلى رفع قول أبي ذر
وتعظيمه، فصار مخالفوه هم المخطئون، وصار هو وحده المصيب. وهي نتيجة عظيمة ترمي
جمهرة الصحابة والتابعين بحب الدنيا والانحراف عن الإسلام. ثم منهم من زاد في
الانحراف مزيدا فجعل تمردا دمويا قبيحا شنيعا انتهك الأعراض وأسرف في الدماء كثورة
الزنج ثورة مشروعة، وصار زعيمها ثوريا مطالبا بحق الفقراء في وجه السلطة المترفة!!
2. فأما حين انتصرت الرأسمالية الليبرالية ورفعت شعارات
حقوق الإنسان فقد تغير التحدي، وصارت الثقافة الغالبة تنحو منحى آخر، فهنا كان
طبيعيا أن ينتج العلماء خطابا يظهر أثر الإسلام في تحرر البشر وفي كفالته للحرية
والخصوصية والحق في التعبير والاعتراض في وجه الحكام ورفعه لشأن المرأة وما وفره
لها من حقوق وما قيَّد فيه السلطة لئلا تستبد.. إلخ!
أيضا إلى هنا والأمر مفهوم، وهو الواجب الطبيعي في ظل
التحدي.. لكن المؤسف أن بعضهم زاد في الانحراف ليجعل من ضمن الحريات الشخصية التي
يكفلها الإسلام حق الردة فاجتهد في نفي حد الردة وتأويل ما جاء فيه، وفي نفي الرجم
للزاني المحصن.. بل زاد آخرون فجعلوا من حقوق المرء حقه في اللواط فقالوا بأنه لا
ينبغي للدولة أن تعاقب على مثل هذا لأنه من الحرية، وكذلك ترك الصلاة والمجاهرة
بالفطر في نهار رمضان وحق المرأة في أن ترتدي الحجاب أو تخلعه أو تسافر بمحرم أو
بغير محرم... وهكذا!
ولدى هؤلاء صارت مسائل كجهاد الطلب أو كحرب أبي بكر
للمرتدين ومانعي الزكاة أو لضرب عمر لبعض الناس بالدرة أو غير ذلك من المسائل التي
ترفضها "الثقافة الغالبة" من الأمور الحرجة التي يعانون في ردها وصرفها
وتأويلها على غير وجهها وإنتاج فتاوى تجعلها من خصوصيات الزمان والمكان السابقين.
لا شك أن هناك من انحرف أكثر من هذا وأكثر فجعل كل السنة
نصا تاريخيا، بمعنى أنه إنتاج بشري من الرسول متعلق بآثار الزمان والمكان والبيئة
والطبيعة الشخصية، فليست له قداسة الوحي.. وهناك من انحرف فجعل القرآن نفسه نصا
تاريخيا ناتجا عن البيئة ولا يمكن أن يكون ملبيا لحاجات الناس بعد نزوله بألف
وخمسمائة سنة وفي بيئة تغيرت تماما عن بيئة العرب!
وهكذا نشأت غابة ضخمة من آثار الثقافة الغالبة، الثقافة
ذات السطوة والحضور والسلاح والإعلام، فمنهم من كان صريحا ومباشرا في تطويع
الإسلام لها ودعوته لهذا كالعلمانيين، ومنهم من تلبس ببعض هذا حتى وصل به الحال أن
يلبس العلمانية ثوبا إسلاميا، يتوسل إلى هذا بعناوين عريضة منها: المقاصد الشرعية
ودلالة اللغة وحجية السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية وحجية تصرفات النبي
في السياسة والتجديد في الأصول والتجديد في الفقه... إلى آخر هذه العناوين التي
بعضها حق لا شك وقد وضعها العلماء أصلا لضبط الدين وفهم أحكامه ورسم بنيانه وإرشاد
المفتي والقاضي إلى سواء السبيل، فجاء هؤلاء فأخرجوها عن المقصد من وضعها لتكون
وسيلة لتمييع الدين وتفكيكه وإذابته وإخضاعه للثقافة الغالبة المعاصرة.
كيف نعرف هؤلاء؟!
نعرفهم في لحن القول.. ذلك أن الذي يتعامل مع نص القرآن
أو السنة باعتباره هاديا يخالف الذي يتعامل معه باعتباره أزمة، أولئك الذين نتحدث
عنهم يظهر في كلامهم بوضوح التعامل مع النص وكأنه أزمة، فيجتهد في التخلص منه
وإهداره:
- فإن كان النص قول عالم أو فقيه مهما بلغ مقامه من
الإمامة تحول إلى ناقد متشدد وقال: ليس هو بالمعصوم، واجتهد في البحث عما يعارضه..
لا للوصول إلى ترجيح في المسألة بل لضرب الأقول المتعارضة بعضها ببعض ليسهل عليه
إخراج قول لم يقل به أحد من أهل العلم!
- فإن كان النص قول صحابي تحول إلى ظاهري متشدد وقال: ليس
لأحد حجة دون رسول الله. فإن كان الرأي في المسألة إجماعا من الصحابة لا قول واحد
منهم تحول إلى منطقي متشدد في ثوب أصولي متشدد يتحدث عن حجية الإجماع وإمكانية
وقوعه، أو صار حنبليا متشددا يرفع قول أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب (وهي قولة لا
يفقه معناها كما أراده أحمد نفسه).
- فإن كان النص في السنة تحول إلى محدث متشدد لا يقبل ما
يتطرق إليه أقل الضعف، فإن كان النص صحيحا اجتهد في تأويله وصرف معناه إلى معنى
آخر، ودخل في سبيل الناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد لا لكي يضبط المسألة وينزل
النص عليها بل ليجعل النص بلا حجة ولا إلزام.
- فإن كان النص في القرآن فربما تحول إلى لغوي متشدد يقيس
ألفاظ القرآن (حتى ما صار منها مصطلحا له دلالة شرعية) على معجم لغة العرب، ونعى
على المفسرين مناهجهم في التفسير ووجود الضعيف في تفاسيرهم، وتوسع في دلالة اللفظ
على المعنى.. لا للوصول إلى المعنى المطلوب بل لرفع دلالة الآية.
هذا بخلاف ما يقع كثيرا من إيراد نصوص مع السكوت على
الرد على ما يخالفها (كما هو منهج الفقهاء الذي يتوصلون به لضبط المسائل وإنزال
النصوص في مواضعها)، أو إيراد بعض النصوص مع تغييب النصوص المخالفة لرأيه، أو
البحث عن مخالفات وشذوذات العلماء والفرق ليتكون منها فقه جديد لا يعرف من قبل، أو
رفع شعار المصلحة (التي لم تعد المصلحة الشرعية التي أرادها علماء الأصول) ليكون
الهوى هو المصلحة، أو رفع شعار المقاصد لإهدار النصوص باعتبار المقاصد كلية
والنصوص جزئية (بينما العلماء استخرجوا المقاصد نفسها من النصوص)... وهكذا!
لهذا نقول بأن هؤلاء لو استطاعوا أن يحرفوا القرآن
لحرفوه، وربما ظنوا أنهم يؤدون بهذا خدمة للإسلام بتجنبيه العداء مثلا أو حمايته
في لحظة الضعف مثلا أو غير ذلك مما يسوله المرء لنفسه.. ولهذا كان حفظ القرآن هو
نعمة الله العظمى على الأمة! وكان حفظه –تبارك وتعالى- لسنة نبيه بعمل الجهابذة
المحدثين الذين بذلوا مجهودا خرافيا لم تبذله أمة قط في تاريخها هو نعمة عظمى على
الأمة أيضا.. نعمة حفظت الدين وصانته عن أيدي العابثين مهما كانوا مهزومين.
وهنا يأتي السؤال الذي أحسب أنه طاف برأس قارئ هذه
المجلة التي ليست مجلة علم ولا فقه ولا دخل لها بهذا الاشتباك.. وهو: ما مناسبة كل
هذا الكلام في مجلة كمجلة "كلمة حق"؟
والجواب ببساطة ووضوح شديد: أننا إذا كنا نتحدث في سياق
ثورة أمة ومواجهة طغيان ومقاومة استبداد وتحدي الثقافة الغالبة بسلاحها وأفكارها،
فأول خطوات هذا كله أن نقرأ ديننا قراءة من يريد فهم الدين كما هو لا من يريد أن
يتصالح به مع الواقع.
إن أول الواجب لأهل الثورة والمقاومة: مطالعة فقه النبي
في البحث عن دولة، وتأسيسها، ومقاومة خصومه داخلها وخارجها، ثم جهاده لتثبيتها
وترسيخها، ثم معاهداته ثم دعوته العالمية ثم جهاده خارجها. وإن مطالعة هذا كله
بروح وغرض من يريد الفهم والاقتداء سيثمر ثمرة لا علاقة لها أبدا بمن سيطالع هذا
كله بروح وغرض من يريد إقناع خصومه أن الإسلام دين جميل ورحيم وإنساني... إلخ!
نعم! الإسلام دين عظيم وجميل ورحيم وإنساني لكن بغير المعاني التي يفهمها الغربيون
من كل هذا. فمحاولة حشر الإسلام في القالب الذي يفهمه الغربي ليست فقط محاولة
تزوير بل هي ضربة في صميم فكرة الدعوة نفسها.. فلماذا ندعو الغربي إلى شيء هو يظن
أن حضارته تنتجه مع إلحادها؟!
ثم مطالعة سير الراشدين: حرب أبي بكر للمرتدين ومانعي
الزكاة، وهي كنز دروس ساطعة جامعة في تأسيس الدولة وسط أمواج المتربصين بها، وفيها
من المواقف ما لا يفهمه إلا السياسي المجرب الخبير بينما الداعية اللطيف المتأنسن
المتفلسف لا يستطيع ابتلاعها.. وكذا سيرة عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا!
وبعد هذا تأتي سيرة مؤسسي الدول، وأولى السير التي ينبغي
أن نقتدي بها سير أجدادنا الذين أسسوا الدول العظمى: معاوية وعبد الملك بن مروان
وأبو العباس وأبو جعفر وهارون الرشيد والمعتضد وعثمان بن أرطغرل، فضلا عن مؤسسي
الدول الأصغر كعبد الرحمن الداخل وإبراهيم الأغلبي وابن طولون ونور الدين زنكي
وصلاح الدين وقطز وبيبرس.. وكل هؤلاء مع ما فيهم من أخطاء أعلى شرفا وأحسن أخلاقا
وأقوم طريقة من كل مؤسسي الدول الأخرى الذين يقدمون كقدوات ومُثُل! بل إن أخطائهم
لم تصر أصلا أخطاء إلا لأننا نحاكمهم إلى الإسلام وإلى سيرة الراشدين، ولو أنهم
كانوا في سياق حضارة أخرى وتاريخ آخر لكانت قُوِّمت على أنها ضرورات وخسائر لا بد
منها في الطريق إلى بناء المجد!
الواجب الأول ألا نستحيي من ديننا وألا نحاكمه إلى ثقافة غالبة مهيمنة تأثرنا بها.. بل لا بد من فهم الدين كما أراده الله ورسوله، ساعتها سنستطيع أن نبدأ مقاومة راشدة حقيقية!
نشر في مجلة كلمة حق - العدد السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق