الأربعاء، فبراير 21، 2018

أيهما أفضل.. دولة فاشلة أم دولة قوية؟


"المكان الوحيد الذي يلقى فيه الجنود (الأمريكيون) الترحيب بالورود والأزهار تُلقى عند أقدامهم هو الأفلام السينمائية"
مذكرات كونداليزا رايس، ص282.

"كانت (لحظة القبض على صدام حسين) لحظة فرح، لكنني أذكر الآن أننا قد ارتكبنا غلطة، إذ قلت في نفسي: كان يجب أن يذيع النبأ رجل عراقي. ولكن الأوان قد فات لجعل لحظة اعتقال صدام لحظة عراقية وليست أمريكية".
مذكرات كوندليزا رايس، ص295.

***

تكفي هاتان العبارتان لفهم السياسة الأمريكية في الواقع المعاصر، ولفهم دور النظم المحلية ومهمتها، المسألة ببساطة أن الاحتلال الصريح غير مرحب به ويستثير مقاومة الشعوب، بينما تغطية هذا الاحتلال بوجه "وطني" محلي يحقق نتائج الاحتلال بكفاءة أعلى وتكاليف أقل! وهذا هو دور الأنظمة المحلية "الوطنية" التي تدعمها الولايات المتحدة وتدرب لها جيوشها وأجهزة أمنها وتقدم لها الدعم الكافي لتحقيق السيطرة الكاملة على الشعوب. ولهذا ينبغي أن يبدو أي تغيير وكأنه مصلحة وطنية تنفذها يد وطنية وينطق عنه لسان وطني!

على غير ما يتوقع الكثيرون ممن يملأون فضاءنا المقروء والمسموع فإن السلطة "المحلية" القوية المتحكمة في الشعب هي مصلحة أمريكية، بينما السلطة الضعيفة التي لا تتاح لها السيطرة التامة على الشعب هي تهديد بالغ للهيمنة الأمريكية!.. نعم، كما قرأتَ بالضبط! ما يسمونه "الدولة الفاشلة" هو في الحقيقة تهديد للهيمنة الأمريكية!

هل تصدق مثلا أنه بعد أحداث 11 سبتمبر بيومين فحسب اقترح بول وولفوتيز ضرب العراق لا أفغانستان. لماذا؟ لأن العراق يملك جيشا نظاميا فيكون تحقيق النصر عليه أسهل وأسرع، ومن ثَمَّ يتحقق الانتصار المعنوي المطلوب للشعب الأمريكي، بينما الأفغان ليس لديهم جيش منظم وستكون المهمة عسيرة وقد تطول لأن المقاومة ستكون شعبية، وهذا درس الاتحاد السوفيتي لم يبرد بعد! إلا أن طلبه قوبل بالرفض لأن البدء بالعراق قد يسبب شرخا في التحالف الدولي ويمثل انحرافا عن معنى الردّ على الاعتداء الواقع في سبتمبر! لكن تلك المسألة التي طرحها وولفوتيز أُخِذت بالاعتبار، فكانت خطة الحرب تعتمد على وجود أمريكي خفيف، مع الاعتماد على المقاتلين الأفغان المعارضين لسلطة طالبان مع إمدادهم بكل ما في الوسع من معلومات استخبارية وغارات جوية وتفوق تكنولوجي. (مذكرات كونداليزا رايس ص114 وما بعدها).

وفي فقرة أكثر وضوحا وصراحة تقول كونداليزا رايس: "بعد 11/ 9 تبين لنا أن الدول الضعيفة والفاشلة تشكل تهديدا أمنيا خطيرا على الولايات المتحدة. فهي لا تستطيع السيطرة على حدودها، وقد تصبح الملاذ الآمن للإرهابيين. لذلك فإن إعادة بنائها يشكل مهمة ضخمة وهامة في آن"، ولا تلبث بعد قليل أن تكشف أن مهمة "إعادة البناء" تستلزم كثيرا من الفرق المتخصصة والمتنوعة لكن "لها جميعا هدفا واحدا، هو مد سلطة الحكومة الأفغانية المركزية ومساعدتها على توفير الأمن والتنمية للشعب الأفغاني". (مذكرات كونداليزا رايس ص139).

هذه هي بوضوح مهمة السلطة الوطنية، أن تمثل خط الدفاع المتقدم للحفاظ على أمن الأمريكان، ولتحقيق مصالحهم في البلاد وتمكينهم منها، ضمن معادلة بسيطة تكون التكلفة فيها على القوات المحلية والغنائم فيها للاحتلال الأمريكي، وقيمة السلطة في أنها أقدر على التعامل مع الشعب لمعرفتها بثقافته وتاريخه وخريطته الاجتماعية وقدرتها على تجنيد مزيد من العملاء تحت شعارات الوطن والوطنية.

تذكرت هذا كله حين عرض علي صديقي وأخي العزيز الباحث أحمد مولانا ترجمة لدليل مكافحة التمرد الأمريكي، ولعلها تنشر قريبا إن شاء الله، ذلك أن هذا الدليل صدر بتوقيع كونداليزا رايس وزيرة الخارجية في وقتها، وإلى جوارها روبرت جيتس وزير الدفاع.. وكانت الروح السائدة فيه هي ذاتها الروح السائدة في مذكرات كونداليزا رايس والتي دفعتني لإعادة التفتيش في ملاحظاتي التي سجلتها على هامشه.

ولا حاجة إلى القول بأن "التمرد" عند الأمريكان هو أي محاولة استقلالية تحررية تقاوم هيمنتهم والسلطات المحلية الموالية لهم، لكن المهم أننا سنظفر منه بكلام أكثر وضوحا وصراحة، من مثل هذا:

1. "خبرات مكافحة التمرد الأمريكية تستند على عدد من الافتراضات: منها أن الجهود الحاسمة لهزيمة التمرد نادرا ما تكون عسكرية  (على الرغم من أن الأمن هو الشرط الأساسي للنجاح). لذا فإن الجهود الأمريكية يجب أن توجه إلى إنشاء هياكل حكومية محلية ووطنية تخدم السكان، لتحل تلك الهياكل بمرور الوقت محل الجهود التي يبذلها الشركاء الأجانب".

2. "التمرد يمكن أن يزدهر في البيئة الحديثة، فالتوترات التي أوجدتها العولمة بانهيار هياكل الدول الضعيفة، والضغوط الديمغرافية والبيئية والاقتصادية، وسهولة التعاون بين الجماعات المتمردة والمجرمين، وظهور الأيديولوجيات الراديكالية المدمرة، تنبئ بفترة تكون خلالها الحكومات الحرة المعتدلة في خطر. وفي عالم اليوم، لا يمثل فشل الدولة مجرد مشكلة للمجتمعات المحلية، بل يمكن أن يتعدى ذلك سريعا ليشكل تهديدا للأمن العالمي".

3. "من الملح التنسيق بين الأنشطة السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، وهو ما يتطلب توحيد الجهود بين جميع الجهات المشاركة في مكافحة التمرد: الحكومة المتضررة، والوكالات الحكومية الأمريكية، وشركاء التحالف".

4. "إذا قررت حكومة الولايات المتحدة أن تشارك في مكافحة تمرد معين، فيجب على صانعي السياسات أن يسعوا إلى تحقيق توازن دقيق يستخدم أكثر أشكال التدخل ملاءمة بحيث يبدو أكثر هدوءا وأقل فجاجة وتطفلا، فضلا عن امتلاكه لاحتمالية كبيرة لتحقيق التأثير المطلوب. لابد من الحفاظ على سيادة الحكومة المتضررة، فزيادة التدخل إلى درجة عالية جدا قد تؤدي إلى نتائج عكسية (تاريخيا كانت بعض التدخلات الأمريكية الأكثر نجاحا هي التدخلات غير المباشرة والبسيطة). وبمجرد أن تلتزم الولايات المتحدة بالمساعدة، لابد من وضع استراتيجية لمكافحة التمرد من خلال أفضل أشكال التعاون مع الحكومة المتضررة وشركاء التحالف الآخرين، نظرا لأن إدماجهم المبكر يمكن أن يساعد في التخفيف من آثار الاختلافات على المستوى العملياتي في الأهداف والقدرات والثقافة".

5. "من ضمن المزايا الأخرى لمعرفة المتمردين بأرضهم: فهمهم التفصيلي للجغرافيا والثقافة والتاريخ وعلم الاجتماع والسياسات الخاصة بالبلد الذي يعملون به، وإن كانت الدولة الأجنبية المتدخلة غالبا ستتعلم ذلك. وبما أن الولايات المتحدة لا تواجه حاليا أي تمرد داخلي محتمل، فمن المرجح أن تكون جميع حملات مكافحة التمرد التي تقوم بها على شكل تدخلات خارجية دعما لحكومة أجنبية، أو تدخلات في البلدان الفاشلة/ المنهارة".

6. "كثيرا ما يُنظر إلى التحالفات  المشتركة لمكافحة التمرد باعتبارها تحظى بشرعية أكبر من التدخل أحادي الجانب من جهة الولايات المتحدة. لكنها تتطلب التعاون والتنسيق بشكل فاعل. فإلى حد ما يكون التدخل المشترك أقل كفاءة منه فيما لو تدخلت أميركا بشكل منفرد".

7. هذه الفقرة أنقلها باختصار، وهي تُوَصِّف دور "الفريق القومي الأمريكي" لمكافحة التمرد، وخلاصتها:

تنفذ جميع استراتيجيات مكافحة التمرد ودعم الحكومة المتضررة من خلال الفريق القومي الذي يرأسه أقدم دبلوماسي في البلد المتضرر باعتباره الأعرف بهذه البيئة، ويتمتع بسلطة استثنائية في اتخاذ القرار بوصفه مسئولا رفيع المستوى في وقت أزمة، ويكون الفريق القومي مسؤولا عن التنسيق وتنفيذ الأعمال بين مختلف المؤسسات في بلد الحكومة المتضررة. يبدأ تشخيص التمرد في مراحله المبكرة لتقديم الإجراءات الإعلامية والأمنية والسياسية والاقتصادية اللازمة، ويمكنه الاستعانة بفريق "الاستجابة المدنية" الذي يجري تطويره حاليا بوزارة الخارجية، ويهدف إلى توفير مجموعة خبراء مدنيين في مجال التعمير والاستقرار ممن لديهم القدرة  على الاستجابة السريعة للبلدان التي تمر بأزمات. فإذا قرر استخدام البدائل العسكرية تواصل رئيس الفريق مع القائد العسكري الأميركي الذي  تقع منطقة التوتر ضمن النطاق  الجغرافي لقيادته، ليساعد في استباق حالات التمرد بتقديم المشورة العسكرية ودعم برامج تعزيز الأمن. فإن تقرر نشر قوات قتالية أمريكية لمساعدة الحكومة المتضررة، فالمسؤولية تقع على عاتق هذا القائد. ويجب أن تصمم كل الجهود لزيادة شرعية وفاعلية الحكومة المهددة في نظر شعبها. وهو ما يعني مجهودا تكامليا من الإدارات الأمريكية المختلفة، بما في ذلك تقديم الدعم الميداني للقوات (الوطنية).

أحسب أن هذه الاقتباسات كافية في الدلالة على المقصود، ويمكن للقارئ مراجعة النسخة الكاملة إن أراد المزيد.

الواقع أن مجرد الكلام في هذا الموضوع هو نفسه دليل حالتنا المتأخرة، لا زلنا نحاول أن نثبت ما هو واضح كالنهار، ساطع كالشمس، ملتهب كالنار.. إن مجرد اختلافنا في توصيف الداء بعد قرنين من الاحتلال والهيمنة الأجنبية لهو نكبة، نكبة معرفية خطيرة خطورة الخيانة الثقافية التي يرتكبها محسوبون على النخبة السياسية، مجرد الكلام عن أن الدولة العربية الحالية هي دولة وطنية وهي صيغة صالحة للحكم في عالمنا العربي هو مؤشر على مدى تأخر التحرر. إذ لم يعد ثمة دليل يمكن أن يُساق لإثبات الواقع خيرا من الواقع نفسه، الواقع الذي تحولت فيه الدولة الحالية إلى غول ينهش الشعوب ويخضعها لمصلحة الاحتلال الأجنبي.. وهذا باعتراف الجميع: اعتراف المحتلين الأجانب واعتراف العملاء المحليين أيضا (هنا عشر اعترافات موثقة صوتا وصورة كمثال بسيط).

حتى مقولة "أحسن من سوريا والعراق" تثبت هذه الحقيقة، فالعراق لم تقم فيه ثورة وإنما أضعفها الاستبداد حتى أسلمها فريسة للاحتلال، بينما سوريا التي قامت فيها ثورة نزل الاحتلال إليها ليحفظ بقاء النظام الوكيل.. الاحتلال والاستبداد وجهان لعملة واحدة في عصرنا، كلاهما يدعم الآخر ويحفظ وجوده، ويجب أن نعلم أن علامة نجاح الثورة في مصر أن نرى الاحتلال الأمريكي في الشوارع! تلك هي علامة نجاح الثورة حقا!

هي معركة ضخمة بكل معنى الكلمة، فهي ليست ثورة ضد مستبد، بل هي بالإضافة إلى ذلك معركة تحرر ضد الاحتلال الأجنبي، وهذا هو قدر أمتنا في هذه اللحظات والأيام المقبلة.

الخلاصة: الدولة التي تسمى فاشلة لا تسمى كذلك لأنها فشلت في توفير حياة كريمة لشعبها، بل لأنها فشلت في مهمة التحكم بشعبها فصار هذا الشعب بيئة حاضنة لحركات الاستقلال والتحرر التي تريد التخلص من الاحتلال والأنظمة الوظيفية التابعة له. والدولة القوية لا تسمى كذلك إلا بمقدار تحكمها وسيطرتها على الناس. والمهمة الأمريكية أن تحول الدول من فاشلة إلى قوية لتؤدي هذا الدور.


هناك تعليق واحد: