الخميس، فبراير 08، 2018

الانتقام من "شارع" السلطان سليم!

 

يقال إن مؤرخا حث محافظ القاهرة على تغيير اسم شارع السلطان سليم الأول باعتباره كان محتلا لمصر، وأراق دماء المصريين، وقتل طومان باي الحاكم المصري.. ومحافظ القاهرة -بالطبع- استجاب!

وهذه تعليقات سريعة موجزة على هذا التهريج:

1. لم ينظر أحد إلى سيطرة سليم الأول على مصر باعتبارها احتلالا في ذلك الوقت، لسبب بسيط: أن مفهوم سيطرة سلطان مسلم على بلد مسلم لم يكن يعني لدى الشعوب المسلمة أنه احتلال!

فكيف كانوا ينظرون إليه؟

كانوا ينظرون إليه على أنه تغير في السلطة، انتقال سياسي، ذهاب حكم ورئيس ومجيئ حكم ورئيس آخر.. تماما كما يرى المصريون الآن -مثلا- ذهاب عبد الناصر ومجيئ السادات ثم ذهاب السادات ومجيئ مبارك، وذهاب مبارك ومجيئ مرسي.. إلخ!

لا يرى أحد منهم أن واحدا منهم احتل البلد على غرار الحكم الإنجليزي مثلا..

2. وأدل دليل على هذا أن طومان باي نفسه لم يكن مصريا، بل ولا كان المماليك من المصريين وإنما جُلِبوا إليها من بلاد القوقاز ووسط آسيا.. تماما مثلما كان الأيوبيون من قبل المماليك من الأكراد لا من المصريين، وقبل الأيوبيين كان الفاطميون وليسوا بمصريين، بل هم مغاربة أو يمنيون (عند من لا يصدق انتسابهم لفاطمة الزهراء رضي الله عنها) أو عرب (عند من يصدق انتسابهم إليها).. ومن قبلهم كانت مصر في حكم الإخشيديين ومن قبلهم الطولونيين، يحكمونها نيابة عن العباسيين.. وقبل العباسيين كان الأمويون، وقبلهم كان حكم الولاة التابعين للخلافة الراشدة.

وهكذا، فكل دول الإسلام منذ الفتح كانت انتقالا ضمن شرعية ومفهوم حكم لم يتغير.. وهو أن مصر من ديار الإسلام، يتولاها المسلمون بغض النظر عن أعراقهم وأماكن ميلادهم.. بدأ هذا بفتح عمر (العربي) وولاية عمرو بن العاص (العربي) وانتهى بالعثمانيين.

ومن ثَمَّ فلا معنى للتمحك بالمصريين والعرق المصري والشعب المصري طوال هذا الزمن.. والمؤرخ يعرف هذا كما يعرف التلميذ أبجديات اللغة!

3. إنما يصح القول بأن دخول سليم كان احتلالا طبقا لمعيار واحد، هو معيار القومية والوطنية.. وهو المعيار الذي وُلِد وعُرِف ووضع في بلادنا منذ مائتي سنة فحسب (أي بعد دخول سليم مصر بثلاثة قرون) مع مجيئ العلمانية والدولة المركزية والثقافة الغربية.. مع الحملة الفرنسية ودولة محمد علي ثم الاحتلال الإنجليزي.. في تلك الأحقاب بُذِلت المجهودات الرهيبة لصناعة مفاهيم الوطنية والقومية المنافية لمفهوم الأمة الإسلامية.. ولهذا صار التركيز على العرب والترك والفرس والأمازيغ.. إلخ، وفي مرحلة لاحقة جرى تقسيم أولئك ليكونوا مصريين وليبيين وسوريين وعراقيين.. والمقصود أن يغيب ولاء الإسلام والأمة المسلمة المتنوعة الأعراق والألوان ليتكرر عندنا النموذج الغربي القومي في قسمة البلدان.

ولو صح أن دخول سليم كان احتلالا.. فسيصح معه أن فتح عمرو بن العاص كان احتلالا.. ولو وصلنا إلى هذا الحد.. فنحن نحمد الله على سائر هذه الاحتلالات ونتمنى أن نعيش من جديد في رحابها.

4. أما إذا نظرنا إلى مصلحة مصر كإقليم في هذا التاريخ فلن يكون لدينا شك في أن مصلحة مصر كانت في دخولها تحت ظل سليم والعثمانيين.. ذلك أن البرتغاليين وبقايا الحروب الصليبية في مالطة وجزر المتوسط وبعض القراصنة الأوروبيين كانوا يغيرون على سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط ولا يملك السلطان المملوكي أن يفعل شيئا إلا إظهار الحزن (أحيانا كان يمتنع عن الأكل يوما أو أياما من شدة الغم.. ثم يعود ليأكل.. بل كانت مراكب الفرنجة تأتي لتسرق مياه النيل من سواحل البحر المتوسط ولا يملك لهم أحد دفعا)

فلما جاء سليم والعثمانيون عاشت مصر آمنة لثلاثة قرون حتى نسي أهلها كيف يكون الاحتلال ولم ينتبهوا إليه إلا مع نابليون!! وذلك أن العثمانيين كانوا يقاتلون البرتغاليين والإسبان والأوروبيين عند الهند وخليج العرب وخليج عدن وفي قلب أوروبا.. فما كان منهم من يفكر في غزو مصر..

ولذلك يرى جمهورة المؤرخين غير المتأثرين بالقومية والاستشراق أن العثمانيين كانوا إنقاذا للأمة ومدا في عمر قوتها ثلاثة قرون على الأقل.

فمن كان وطنيا حقا (بمفهوم الوطنية المصرية هذه الأيام) فليحمد الله على نعمة العثمانيين.. فلولاهم لكنا مثل أمريكا اللاتينية التي حطمها الاحتلال الإسباني ثقافيا وحضاريا ولغويا وقت أن كان مفهوم الاحتلال الغربي يعني الإبادة لا مجرد السيطرة العسكرية والاقتصادية.

5. نعم، شنق سليم طومان باي ولم يهدأ إلا بعد أن أسره وقتله.. هكذا جرت سنة الدول، والنظام الجديد لا يهدأ حتى يهدم النظام القديم، وإلا فإنه لن يستمر ولن يستكمل.. تلك سنة الدنيا وسنة السياسة!

ومن كان مرفها ناعم الملمس رقيق الفؤاد يتأثر لمثل هذه الحكايات فليكف عن مطالعة التاريخ وليعش في أوهامه.. أو ليكن صادقا مع نفسه فيتذكر أن المماليك أنفسهم كانوا ينقلبون على بعضهم ويقتتلون ويحصلون على الحكم بهذه الطريقة.. منذ قتل بيبرس قطز وحتى قتل سليم طومان باي!

أو لعله ينظر إلى خيبتنا فيري كيف صنع السيسي بمرسي وأنصاره، وكيف كان الخطأ العظيم للثورة المصرية واليمنية والتونسية أنها لم تقض على النظام حقا، فجددت الأنظمة القديمة نفسها وانقضت من جديد أكثر عنفا وقسوة..

صناع التاريخ على كل حال لا يتوقفون عند أحلام الناعمين المرفهين!

6. هل معنى هذا كله أن سليما كان عادلا أو كان خليفة راشدا؟!

بالطبع لا.. وربما في سياق آخر نذكر ونتناقش حول أخطائه وقسوته، لكن هذا مجال، والقول بأنه والعثمانيين احتلالٌ مجال آخر..

ويجب التنبيه أن معنى الاحتلال لم يكن موجودا بحال.. بل لقد عرف ولاة العثمانيين الأوائل بالعمارة حتى من اشتهر منهم بالقسوة أو بالخلاعة.. ولهم في مصر آثار كثيرة مشهورة، ولم يحاولوا فرض التتريك ولا نشر اللغة التركية، وكانوا يجلون علماء الأزهر، ويقيمون الخانقوات للصوفية، هذا فوق دفاعهم المجيد عن السواحل الإسلامية من الهند إلى الجزائر.

7. وفي النهاية فكل ما ذكرناه هذا هو رد على المشغبين والجهلة لا أكثر.. بينما تغيير اسم الشارع هو محاولة مؤرخ منافق لسلطة منافقة في معركة سياسية.. فشارع سليم هذا لم يوجد اليوم لكي يكتشف المؤرخ اليوم أنه كان محتلا فتؤرقه أمانة التاريخ ويعذبه ضميره العلمي فينهض وقد فارق النوم عينه ليبيت عند باب بيت المحافظ كي يقترح عليه هذا الاقتراح.. أبدا! إنما هي حالة النفاق التي تسري في مصر كالعدوى، والنفاق ابن الاستبداد.. والاستبداد يقلب الموازين والمعايير كما يقول الكواكبي!

فلعل المؤرخ أراد أن يحصل شيئا من سوق الذهب المنثور أو الرضا المنشور فقلب في بضاعته ليخرج منها بما يهجو به الأتراك تقربا إلى سيده الرئيس!

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق