على
غير ما يظن الكثيرون، فإن المؤلفات الإسلامية المعاصرة المكتوبة في باب السياسة
الشريعة ليست بالقليلة، ولكنها إنما تبدو كذلك لأن الأوضاع السياسية في العالم
الإسلامي لا تسمح بالاجتهاد في هذا الباب، فهو إما مغلق تماما لطبيعة الأنظمة
الاستبدادية التي تفرض أنماطا من المحظورات في البحث العلمي، وإما مغلق عمليا إذ
لا مجال سوى التنظير والبحث الذي غاية أمله أن يرتقي به الباحث درجة علمية ثم يوضع
بحثه في أرفف المكتبة الجامعية، وفي هذه الحالة فإنه لا تمضي بضع سنوات حتى يصير
البحث لا قيمة له لما يستجد من النوازل والمتغيرات في البيئة السياسية، والاجتهاد
عملية حية مستمرة إن أغلق دونها باب التنفيذ لم تستطع أن تستوعب الجديد وتتفاعل
معه.
منذ
حوالي القرنين شهد باب السياسة في العالم الإسلامي نازلة كبرى مركبة: نازلة الدولة
الحديثة، وقد ساهم في تعقيد ظاهرتها أنها كانت وليدة مرحلة الهزائم الإسلامية منذ
بدء ضعف الدولة العثمانية وانهيار ولاياتها تحت الغزو الأجنبي، ثم مرحلة البعثات
العلمية والترجمات ومرحلة الاستعمار الحديث! كان العقل الإسلامي يحاول البحث عن
إجابة سؤال: ما الذي تغير في معادلة التفوق الإسلامي؟ ولأول مرة صار
النظر إلى الغرب يسفر عن مشروع حضاري مثير للإعجاب لا عن مجرد تفوق عسكري كما كان
الشأن في زمن الحروب الصليبية!
وهكذا وُضِعت تحديات التحديث والتغريب والدولة الحديثة
أمام العقل المسلم، وكانت أول الإجابات قادمة من علماء بالمعنى التقليدي، إلا أنه
أتيح لهم الاتصال بالسلطة والاحتكاك بالغرب معا، ونعنى بهما: رفاعة الطهطاوي وخير
الدين التونسي، غير أن مشروعات أي منهم لم تنجح.
لقد كانت السلطةُ هي الصخرة التي تحطمت عليها آمال هؤلاء
الإصلاحيين، كانت السلطة المستبدة في العالم الإسلامي تريد نقل المنجزات الصناعية
الحديثة من الغرب فحسب، بينما أبصر الطهطاوي والتونسي أن التفوق الغربي ليس منحصرا
في باب الصناعات وإنما هو جزء من مشروع ونموذج حضاري أهم ما فيه هو الوضع الجديد
للشعوب في معادلة السلطة، وأن ما وُجِد من القوانين والتقييد لسلطة الملوك وما
أتيح من الحريات والحقوق للجماهير أطلق هذا المدَّ الكبير من الطاقة التي صنعت هذا
التفوق. وسجَّل كل منهما ذلك تلميحا أو تصريحا فيما تركه من تراث مكتوب أو من
ترجمات، إلا أن مساعيهما في هذا الباب باءت بالفشل إذ كانت السلطات في القاهرة
والقسطنطينية لا يمكن أن تستجيب لمثل هذه التغيرات.
منذ تلك اللحظة وحتى الآن جرت أحداث كثيرة يصب أغلبها في
التمكين للنموذج الغربي الذي نزل بعدئذ بقواته واحتل البلاد وأنشأ فيها المؤسسات
المتغربة، ثم لم يترك البلاد ويرحل إلا بعد ضمانة ضرب المقاومة الإسلامية وتنصيب
سلطات علمانية، فعاش العالم الإسلامي قرنين من القهر والتغريب؛ بالاستبداد أحيانا
وبالاحتلال أحيانا، مما ضرب قدر وقدرة العلماء والمجتهدين على تقديم الاجتهاد
الممكن للنوازل السياسية الجديدة.
يمكن اختصار معضلات الاجتهاد الإسلامي في باب السياسة في
أربعة رئيسية هي:
1. معضلة الفهم
والتصور
إذ يعاني جمهور المشايخ
والعلماء من سوء فهم وتصور لما آلت إليه أحوال السياسة والنظم، وما استجد فيها من
الفلسفات والتوجهات وما طرأ عليها من التعقيد والتركيب، وما أنتجه كل هذا من خصائص
في بنية وأسلوب عمل المؤسسات السياسية، وذلك راجع إلى أمرين:
أولهما كما يقول ابن
خلدون "لما يكون في التكاسل في النفوس المضطهدة"، وذلك أن الاستبداد
يفرض حالة عامة من الركود وتعطيل الملكة الاجتهادية التي يلزمها قدر من الحرية
والثقة يمكنها به البحث وطرح الأسئلة والتنقيب وراء الظواهر، ولا يكون هذا في جو
القهر والإرهاب.
وثانيهما: ما تحرص السلطة
على تعتيمه -فإن لم تستطع: تشويهه- من النماذج السياسية المغايرة، فالسلطة في
الدولة الحديثة تحتكر إنتاج وترويج المعرفة، بما صار لها من احتكار لمؤسسات
التعليم والإعلام والثقافة، وهو ما يترتب عليه الجهل والانفصال بين العلماء وبين المعرفة
العميقة لهذه النماذج، وهي المعرفة التي تؤهل للاجتهاد في شأنها كنازلة جديدة. وأستطيع
القول بأن نموذج الدولة الحديثة وما يطرحه من إشكالات لم يُطرق بوضوح وجرأة في
البيئات العلمية التقليدية إلا بعد عصر الانترنت، وبشكل أقوى: بعد عصر الربيع
العربي ومواقع التواصل الاجتماعي التي نقلت هذه النقاشات من دهاليز الأقسام
المتخصصة إلى الساحة العامة التي تشتبك مع البيئة العلمية الإسلامية.
2. معضلة العجز
وهو العجز عن التطبيق؛ وهي
مرحلة وصل الطهطاوي والتونسي وغيرهما إليها في بعض المجالات التي لم تكن السلطة
تنتبه أول الأمر إلى آثارها ومآلاتها، ثم لم يستطع أحدهم تجاوزها فيما بعد، ولا
ريب أن التطبيق هو رافد أساسي من روافد الاجتهاد، إذ التنظير مهما بذل من الجهد والنظرية
مهما صحَّت فلا بد من اختبارها في الواقع والمجتمع، وبناء على الواقع يكون التصحيح
والتعديل، فالاجتهاد عملية حية مستمرة.
وفي هذين القرنين تدنى
مستوى قدرة العلماء على التطبيق تدريجيا إلى أن أزيحوا تماما من كل قدرة بإلغاء
القضاء الشرعي، وهو الأمر الذي لا يتوقف خطره عند إزاحتهم من ساحة العمل بل يمتد
إلى أنه يعزلهم عن ساحة المجتمع وقضاياه وأساليب الناس في التعايش والتحايل على
القوانين، وما يستجد في حياتهم من نظم حاكمة وعادات تأخذ طريقها لتكون تقاليد
راسخة مع طول الزمن.
3. معضلة الهروب إلى
المعارك الفرعية
وذلك أن باب السياسة بابٌ
خطير يكلف عداوة السلطة، فيضطر المجتهد إلى الهروب من باب المواجهة الصريح
والاجتهاد في المسألة الكبرى إلى فروعها ولوازمها من المسائل الجزئية، وحينئذ
تشتعل الصراعات الجانبية بين طوائف العلماء والآراء وتذهب فيها طاقة الاجتهاد، ثم
ينفصل مجتمع العلماء عن مسائل الوقت بالكلية، لا سيما في نظام يستبدل بهم طبقة
جديدة من الموظفين والإدرايين تأكل من مساحة القضايا والشؤون التي يعالجونها حتى
تمَّ له إزاحتهم بالكلية.
إن قضايا كالتفريق بين
أحد وزوجته أو معارك الحجاب أو الخمور أو الانحلال الأخلاقي أو مكافحة التطبيع مع إسرائيل
أو المناداة بمد يد الغوث للعرب والمسلمين المستضعفين في أي مكان.. كل هذه القضايا
هي في حقيقتها فروع عن القضية الأصلية: السلطة المستبدة التي تفرض على المجتمع
بالقهر أمورا لا يقبلها، لكن حيث كانت السلطة قاهرة فإن الهروب من مواجهة القضية
الأصلية الصريحة إلى الفروع والهوامش يكون هو البديل المتاح المقدور عليه إذ
مهاجمة وزير الثقافة أو صحافي علماني أو داعية نسوية أهون من تحدي السلطة.
بل إن الانشغال بقضايا
التعليم والتربية وأعمال البر والخير ورعاية الأيتام وتزويج الفقراء وغيرها هو في
حقيقته أيضا هروب من مواجهة المتسبب الأصلي في هذه المآسي، وكل هذا مما يستهلك
طاقة الحركة العلمية ويصرفها عن الاجتهاد في باب السياسة المحفوف بالمخاطر.
4. معضلة التوظيف
وذلك أن سلطة الدولة
الحديثة قد نزعت من الفقهاء كل استقلال مالي والجانب الأعظم من المكانة المعنوية،
ولم يعد ثمة مجال للفقيه خارج عن مساحة السلطة، وهو ما ينعكس على المجتهد الذي
يؤْثِر كتمان ما يعلم والسكوت عن الحق الذي ينبغي أن يقال، ولربما تطور الحال إلى
تأصيل الباطل والترويج له وإسباغ الشرعية عليه. وهذه الأمور مهما أسرفنا في
إدانتها تظل حقيقة إنسانية وتاريخية تعطل الاجتهاد في باب السياسة.
هذه المعضلات الأربعة
مجتمعة تجعل الاجتهاد في باب السياسة من أعسر وأخطر ما يمكن، بالرغم من أن باب
السياسة هو أهم وأخطر الأبواب جميعا وأكثرها تأثيرا على المسلمين. ولا يمكن توقع
فتح باب اجتهاد حقيقي في مجال السياسة إلا بوجود بيئة علمية آمنة من بطش السلطان
ومستقلة عن سطوته العلمية المعرفية وعن أمواله ورواتبه ومكافآته.
بغير هذا سيظل أحسن ما
نحصل عليه: اجتهادات نظرية مكتوبة على هيئة بحوث راقدة في صفوف المكتبات، تفقد بعد
قليل القدرة على الحياة ومواكبة الحوادث، وسيظل أسوأ ما نحصل عليه حالة مشيخة
السلطان الذين يصنعون له من رغباته فتاوى وتأصيلات شرعية بدعاوى الاجتهاد!
ويبدو أن مسار التاريخ لا
يترك لنا إلا احتمالا واحدا: الثورة هي التي ستصنع مجتهديها، وهم الذين يصنعون
نموذجها الحضاري، وكل هذا في ظلال كفاح مرير لخلع منظومات القهر والتغريب التي تسيطر
على بلادنا منذ مائتي سنة!
لامس هذا الكلام قلبي و قد كنت اشاهد حلقة للشيخ حازم مع يسرى فودة و عرض له فيديو لاعوان برهامي ليرد عليه ،،
ردحذففعلا اخر ٢٠٠ سنة فيها تحديات كبيرة للامة الاسلامية
و لكنها منصورة بإذن الله
بما أن الإصلاح والاجتهاد والعمل في الأصول يعني تحدي السلطة، فأسأل ما السبيل؟ فهل واجب طلاب العلم الآن التحرك نحو التخطيط والعمل الثوري أم البقاء خارج السجون وتقريب الناس إلى ربهم ودينهم وتعريفهم به وتعليمهم؟
ردحذف