الخميس، يونيو 23، 2016

هل ينبغي لنا أن نخشى من دراسة الحضارة الغربية؟

لا أحسب أحدا يجادل في أهمية دراسة الغرب وحضارته ونظمه لما لذلك من أهمية كبرى في العديد من المجالات: العلمية، الدعوية، التعاونية، وحتى المواجهة في المعركة!

وقد ذكرنا في مقال سابق كيف ينبغي أنتبدأ دراسة الحضارة، إلا أن كثيرا من الناس يتعاملون بالخوف والخشية مع هذا الموضوع، ويضعون بعض المحاذير التي تعترض طريق دراسة الحضارة الغربية، وقد جمعناها فوجدناها تنحصر في خمسة أمور:

(1)             الاختلاف الثقافي المانع من الفهم والاستيعاب، وذلك أن الحاجز الثقافي بيننا وبين الحضارة الغربية سيمنعنا من فهمها واستيعابها على وجهها، وهذا الأمر أكثر من يطرحه العلمانيون وقليل منهم الإسلاميون.
(2)             الخلط بين العام والخاص المانع من التعلم والاستفادة، ذلك أن النظر السطحي المتعجل قد يجعل من العام خاصا بهم أو من الخاص بهم عاما ينبغي لنا أن نستفيد منه، ومتى حصل الخلط جاء معه بالتشوش والغبش في الرؤية وفي التعلم والاستفادة.
(3)             والعداء المانع من العدل والإنصاف، إذ يحسب الكثيرون أنه لن يمكن لنا فهم الغرب ولا يمكن للغرب فهمنا طالما العلاقة بيننا علاقة صراع ومعارك، فهذه البيئة تذهب بالإنصاف وتثمر التطرف والرفض.
(4)             والتفوق الغربي المانع من تبَيُّن العمق والخلل، فمتى نظر المغلوب إلى الغالب لم يستطع أن يتبين مكامن الخلل في نموذجه الحضاري، ومن ثم استحال عليه معرفتها أو التعلم منها.
(5)             والتنازل المانع من الثبات والرسوخ، وذلك من أثر تأثر المغلوب بالغالب، إذ يسعى للاندماج والذوبان في الحضارة الغالبة، فيضر هذا بما لدينا من اعتزاز حضاري بديننا وحضارتنا وثقافتنا.
وقد تحدثنا في المقال السابق عن المحذور الأول، وطرحنا السؤال: هل عجز المستشرقون عن فهمنا؟ وهل نعجز نحن عن فهم الغرب؟

وفي هذه السطور نناقش المحذور الثاني والثالث.. ونؤجل الرابع والخامس إلى المقالات القادمة إن شاء الله تعالى، فالله المستعان.

2. الخصوصية والعمومية

بقدر ما بين البشر من الاتفاق في الخلق والفطرة والطباع، بقدر ما بينهم من الاختلاف في أمور كثيرة، ومما هو بديهي أن الحضارات هي صورة للبشر، فما بينها من الاتفاق هو كما بينها من الاختلاف. وهذا الاختلاف منه ما هو بأصل الخلقة والبيئة والتكوين تتجلى فيه إرادة الله الشرعية والكونية معا كما في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، ومنه ما هو بالضلال والانحراف وفِعْل الشياطين كما في قول نبينا r: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه"[1]، وقوله r فيما ينقله عن ربنا: "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم"[2].

وفي موضوعنا هذا، فلا ريب أن الحضارة الغربية مزيج "من السليم والسقيم، ومن الصواب والخطأ في النتائج والأحكام، ومن البديهيات في العلم التي لا تقبل الجدال والشك ومن التخمينات في الآراء والدعاوى التي تقبل المناقشة الطويلة والجدال الكثير، ومما هو خميرة من الاختبارات والبحوث الطويلة ومما هو فجٌّ لا يزال في دور التجربة والاختبار والنشوء والارتقاء، ومما لا يختص بإقليم أو عنصر من علوم تطبيقية، وبالعكس مما تجلت فيه الطبيعة الأوروبية، وأثرت فيه البيئة الغربية، وولدته حوادث تاريخية خاصة اكتوت بنارها هذه الأمم، ومما له صلة قوية عميقة بالدين والعقائد، ومما لا صلة له بالدين مطلقا، وذلك الذي زاد في تعقد هذه المشكلة وخطورتها، وأحرج مركز العالم الإسلامي، وكان فيه بلاء ومحنة لذكاء قادته وزعمائه وأصحاب التوجيه فيه"[3].

وليس أجدر أن يقوم بهذا التفريق بين العام والخاص، بين ما يمكن الاستفادة منه وما لا يمكن استنساخه، بين ما يناسبنا وما لا يناسبنا.. ليس أجدر أن يقوم بهذا التفريق من المستغربين، مثلما أن أسوأ من يقوم بهذا التفريق هم المتغربون، والفارق بينهما هو الفارق بين الدارس الفاحص وبين المنبهر الذاهل، إلا أن هذا التصنيف العام قد يتداخل في التفاصيل والجزئيات.

يرى حسن حنفي أن "الثقافة واحدة إذا ما تشابهت الظروف في مجتمعين مختلفين"[4]، وهو ما نخالفه فيه ونرى أن الاستجابات للتحديات المتشابهة لا تكون بالضرورة متشابهة، خصوصا إذا اختلفت الأصول والمنابع الثقافية، ولكن يمكن أن نتخذ من "تشابه أو اختلاف الاستجابات في الظروف المتشابهة" مقياسا نحدد به ما هو إنساني عام مشترك بين الحضارات، وما هو خاص تنفرد به حضارة عن أخرى أو مجموعة حضارية عن باقي الحضارات الأخرى.. ونحن نقول هذا مع إدراكنا أنه أمر يدخله التقدير والاجتهاد إذ الحوادث لا تتكرر بحذافيرها، مما يجعل المساحة واسعة أمام الاجتهاد والتقدير، وكما قال الإمام أحمد: "أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس"[5].

3. الإنصاف في زمن الحرب

قال ستالين: "في الحرب لا مكان للموضوعية".

إن طبيعة الحروب والتدافع تمنع من النظر المنصف، وتلك طبيعة البشر التي يستحيل تغييرها، وقد رأينا في استعراض تاريخ الاستشراق كيف أن نضوج الاستشراق ودخوله في مرحلة البحث العلمي لم يأتِ إلا بعد تركيعنا والاطمئنان من ناحيتنا، في حين أن وقت اشتعال الحرب وتمثيل الخطر كان الاستشراق موغلا في الكذب والفجور، حتى لم يكن يُقبل من الآراء إلا ما يساهم في المعركة. ولم يكن "الجدل العلمي" حول تعريف القومية بين الفرنسيين والألمان "إلا صراعا سياسيا حول الإلزاس"، فيما يُجمله جلال كشك بقوله الوصفي: "في السياسة والاجتماع والفلسفة، لا يوجد ما يسمى بالنظريات العلمية، بل العلم هنا منحاز، والنظريات تعكس المصالح القومية أو الطبقية"[6].

أن طبيعة الإسلام العالمية التي هي فوق كل تصنيف قومي، بل وتوسيعه المفهوم القومي ذاته [انظر: خصائص التميز الإسلامي]، يجعل غاية المسلم إنسانية لا قومية ولا عرقية ولا طبقية، وهذا المنطلق هو الكفيل بجعل المستغرب لا ينسى العدل والإنصاف حتى وهو في الحرب، وقد كان أجدادنا في فتوحاتهم يلبسون دعاة وهم في ثياب الحرب، واجتمعت في فتوحاتهم الدعوة والرحمة مع القوة والرهبة، وكانوا أفرح باستجابة العدو للدعوة من فرحهم بالنصر. وبمثل هذه النفسية استطاع الفاتح عمرو بن العاص أن يتحدث عن صفات الروم الخمسة التي تؤهلهم للخلود حتى قيام الساعة.

ونحن في هذه اللحظة نعيش تهديدا وجوديا حقيقيا وخطيرا، ويصعب على المرء أن يكون محايدا في ظل ظرف كهذا، حيث أخبار القتل اليومي والمذابح الشهرية لا تنقطع، ولم يعد الغرب نازلا في أرضنا بجنوده وجيوشه فحسب، بل هو يسيطر على جنودنا وجيوشنا وأنظمتنا نحن حتى ليجعلها حقيقة وواقعا جزءا منه ومن نظامه، ثم زاد على هذا أنه يجعل الأجهزة الأمنية والعسكرية شبكات منفصلة عن النظم السياسية ومرتبطة به مباشرة، وبعد هذا كله فإنه يحتفظ في بلادنا بقوات خاصة للتدخل السريع، وهي القوات التي تعمل بلا أي تنسيق مع الأنظمة القائمة، ثم يستعين -خلافا لكل ما سبق- بشركات أمنية هي على الحقيقة منظمات مرتزقة تعمل خارج إطار القوانين مثل البلاك ووتر[7].. فهذا الاحتلال المتعدد الطبقات المتشعب الأذرع الذي نرث ثمرته مَقاتِل مستمرة بأيديهم وبأيدينا، يجعل أمر الإنصاف والعدل في دراستهم أمرا في غاية الصعوبة ينبغي على المستغرب أن ينتبه له ويضبطه.

نشر في ساسة بوست



[1] البخاري (6226)، ومسلم (22).
[2] مسلم (2865).
[3] الندوي: موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية ص10، 11.
[4] حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب ص87.
[5] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 2/63.
[6] جلال كشك: القومية والغزو الفكري ص60.
[7] انظر:
Jeremy Scahill: Blackwater; The Rise of the World's Most Poewrful Mercenary Army (Nation Books, United States, 2007)
Nick Turse: America’s Black-Ops Blackout; Unraveling the Secrets of the Military’s Secret Military, January 7, 2014. (www.tomdispatch.com, LINK)
فهمي هويدي: ماذا يدبرون للثورة في الخفاء، جريدة الشرق القطرية بتاريخ 22/2/2011م.
حلقة إذاعية على (witf) ضمن برنامج (smart talk) بتاريخ 15/7/2013م. (رابط استماع، رابط تفريغ)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق