لقد جزم كثيرون منَّا بأن المستشرقين يعجزون عن فهم
الحضارة الإسلامية لأن الاختلاف الثقافي لا يمكن لهم تجاوزه مهما فعلوا، فإن
نشأتهم على العجمة وتعلمهم العربية بعد العشرين وافتقادهم للثقافة يجعل قدرة
المستشرق على الكلام في الحضارة "ممتَنِعٌ كل الامتناع, بل هو أدخل في باب الاستحالة
من اجتماع الماء والنار في إناء واحد"[1]،
ووافقه على هذا د. عبد العظيم الديب وقال: "وهذا كلام مبين غاية الإبانة, واضح
تمام الوضوح ولا تحتاج معه إلى دليل"[2].
وقد خالفهم في هذا الأكثرون، بالقول والفعل، فأما الفعل فكل من نقل عن المستشرقين
قولا وافقهم فيه فقد خالف هذا الرأي بفعله، وأما القول فمنه ما قاله د. عمر عبيد
حسنة من أن اللغة أمر كسبي، وأن كثيرا من عظماء علماء اللغة والتفسير والفقه في
تاريخنا كانوا من الأعاجم، وأن قصر فهم اللغة على العرب يعارض رسالة القرآن
العالمية، ولو صح هذا "لكان الخطاب القرآني تكليفا بما لا يطاق، وهذا مستحيل
شرعا وعقلا"[3].
ونضيف إلى هذا بأن اعتناق هذا الرأي يُلزم بعجزنا عن دراسة الغرب بأي حال من
الأحوال، لهذا الحاجز الثقافي الذي يستحيل تجاوزه.
وبديهي أننا نخالف هذا الرأي، ونرى أن الحاجز الثقافي
ليس عصيا على التجاوز، غير أن وجهة النظر القائلة باستحالة الفهم هذه لم تنبنِ إلا
على أخطاء حقيقية وكارثية وُجِدت في كتابات المستشرقين رغم بذلهم الجهد الضخم في
دراسة الموضوع، وأبرز ما يخطر على البال الآن كمثال هو كتاب المستشرق الأمريكي
مايكل كوك "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي"، فقد ظل
يجمع مادة الكتاب لعشرة أعوام ومن مصادر مكتوبة بأربع لغات: العربية والإنجليزية
والفارسية والتركية، لكنه تعامل مع النصوص بمنطق حسابي هندسي، هو سليم في ميزان
المنطق والمادة، لكنه مزعج في ميزان الثقافة الإسلامية، إذ لا يُفرِّق بين الكلي
والجزئي والعام والخاص والمطلق والمقيد، وعامة هذه التفاصيل التي تتكون لدى المسلم
عبر مزيج ثقافي طويل وعميق.
لقد عبر د. عماد الدين خليل عن هذا الفارق الثقافي
تعبيرا جميلا حين قال بأن "المسلم -مهما كانت درجة ثقافته يتعامل مع المعطيات
الإسلامية وفق ما يمكن اعتباره شبكة من البداهات والمسلمات، وهي لم تأت إليه
مباشرة عن طريق الأخبار والروايات التاريخية، وإنما جاءته بطريقة أكثر حيوية، كانت
أشبه بالروافد المتدفقة التي تتشكل لكي تصير نهرا، من خلال تعامله مع القرآن
والحديث ومن خلال تجربته الإيمانية، ومن خلال عرف اجتماعي ثقافي عام يقوم على خطوط
عريضة متفق عليها، ومن خلال تقليد زمني تُتَناقل بواسطته الحقائق من جيل إلى
آخر... بينما مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخي وأصوله فإنه من خلال
رؤيته الخارجية وتغربه يمارس نوعا من التكسير والتجريح، فيصدم الحس الديني ويرتطم
بالبداهات الثابتة"[4].
لكن الحقيقة التي لا تُنْكَر كذلك أن مجهود المستشرقين
في البحث والتنقيب والتفتيش في حضارتنا أثمر دراسات قيمة ونظرات تفسيرية جديدة
وآراء قوية لها وجاهتها، وهذا ملموس لكل من قرأ في تراثهم وأبحاثهم، بل هو معترف
به لدى كل من كتبوا عن الاستشراق ولو كرهوه ورموه عن قوس واحدة؛ إذ هم يعزون إليه
ويحملونه مسؤولية تقديم الخبرة الكافية للاستعمار قبل وأثناء دخوله البلاد، وما
كان لهم أن يُحمِّلوه هذا الإثم لو لم يكونوا يعترفون أن المستشرقين قد حصَّلوا
بأبحاثهم علما كافيا ووافيا يُنتفع به ويُبنى عليه.
وما نراه في هذا الموضوع هو أن ثمة مساحات شديدة
الخصوصية يكثر فيها خطأ الباحث إن كان ينتمي لحضارة مختلفة، مثل اللغة والثقافة
والآداب، وإن كنا لا نعتقد أنها مغلقة تماما ويستحيل تجاوز حاجزها[5]،
وأما المساحات الأوسع لباقي مجالات الحضارة فالتاريخ والواقع يشهدان أن بذل
المجهود والتعمق في بحث الموضوع وطول ممارسته يُثمر قدرة على هضمه وفهمه.
وفي كل الأحوال وبغض النظر عن هذا الخلاف، تبقى مشكلة
الاختلاف الثقافي مشكلة حقيقة يجب أن ينتبه إليها كل باحث في علم الاستغراب، وموضع
التفرد فيها هو ذاته موضع الخطر، فبقدر ما تكون النظرة الحضارية المختلفة جديرة
بأن تلقي أضواءً جديدة على الموضوع وتكشف فيه مساحات جديدة، بقدر ما تكون جديرة
بالخطأ وعدم الفهم والعجز عن الذهاب وراء الظواهر إلى الأعماق والوقوع في فخ
الإسقاط، وسائر ما عانينا منه في البحوث الاستشراقية التي شوهت الإسلام والتي
رددها مستشرقون منصفون لا نستطيع أن نرميهم بالمؤامرة أو الغرض[6].
إن التعمق في فهم الثقافة والروح المحيطة بالحدث أمر
يحظى بالأهمية البالغة ولو في الموضوعات التي ظاهرها الوضوح والبساطة، فحتى مؤسسو
المذاهب والدول والحركات الذين تبدو دراستهم الأمر الأسهل من بين الدراسات
التاريخية لما فيها من الوضوح والظهور والشهرة، حتى أولئك يجب التعمق في دراستهم
وتلمس بيئتهم، إذ "لسنا على يقين من أن الأفكار السامية التي يُحْدثها النابغون
من فطاحل القوم إنما هي عملهم خاصة، نعم هم الذين أوجدوها، ولكن لا ينبغي أن ننسى
أن ذرات التراب التي تراكمت فصارت منبتا لتلك الأفكار إنما كونتها روح الجماعات
التي وُجِد أولئك النابغون فيها"[7].
إن العبارة نفسها -بل والكلمة الواحدة- قد تعبر عن
المعنى وضده بحسب الثقافة، ولذلك يتحدث المترجمون كثيرا عن "المكافئ
الدلالي" بدلا من "المكافئ اللفظي" لا سيما في ترجمة الروايات التي
لا تحتمل وضع حواشٍ أو شرح الدلالات الدقيقة للألفاظ، ومن أشهر الأمثلة في حالتنا
هذه مصطلحات مثل "العقيدة" و"الإيمان"، فهي بقدر ما تعني
الجزم واليقين والاطمئنان في أذهاننا فإنها "حين تستخدم باللغة الإنجليزية
بمعناها العام تحمل في طياتها مضامين اللا حقيقة والاحتمالية والشك
والاشتباه" للميراث المعروف من الصراع العلماني الكنسي[8].
كذلك فإن لفظا مثل "الأصوليين" يستدعي النفور ويعبر عن التعصب في
الثقافة الغربية، بينما هو عندنا إن لم يعبر عن علماء أصول الفقه -وهم قوم
مُعظَّمون ومُقدَّرون- فإنه يعبر عن المتمسكين بالأصول، وهو أمر مُقدر ومُعظم[9].
بل إن كلمة ماركس الشهيرة "كل ما هو صلب يتطاير في الهواء"، قد تعبر عن
الحفز لتغيير التاريخ في سياق ثورة أو التنظير لثورة، وقد تعبر عن الحفز للاستسلام
في سياق فلسفة العبثية والعدمية لأنه لا شيء يستحق!
فإدراك السياق والروح المهيمنة أصل في فهم الموضوع، ونحن
أولى من ندرك هذا، إذ نحن أحفاد من اشترطوا "العلم بأسباب النزول" في
الكلام الإلهي الذي هو حق مطلق فوق الزمن والظروف، رغم اتفاقهم على أن
"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"[10].
ولا نرى حلا لهذه المعضلة -معضلة الاختلاف الثقافي- إلا بأمرين لا بد لهما
أن يعملا معًا: التعمق في الموضوع دراسة، والالتزام بتقوى الله وأدب الإسلام التي
تلزم بالعدل والإنصاف واستفراغ الوسع وتنهى عن القول بغير علم، وهذه الثانية -كما
ذكرنا سابقا ونكرر دائما- هي البديل الإسلامي الواقعي لوهم الحيادية العلمية والتي
يستحيل أن تتحقق في مجال العلوم الإنسانية.
نشر في ساسة بوست
[1] محمود
شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص68.
[4] د. عماد الدين خليل: المستشرقون والسيرة النبوية، ضمن "مناهج
المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية" ص115، 116 باختصار وتصرف.
[5] ومما هو ذو دلالة هنا أن النحاة وإن كانوا يعتبرون كتاب سيبويه "قرآن
النحاة" إلا أنهم لا يرون لغته دليلا على لسان العرب، فيما يعتبرون لغة
الشافعي دليلا في لسان العرب، وإن لم يؤلف في النحو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق