لا يزال الحديث موصولا عن المحاذير التي تعرض لنا إذا بدأنا دراسة الحضارة الغربية، وقد
ذكرنا أنها خمسة:
(1) الاختلاف الثقافي المانع من الفهم والاستيعاب، وذلك أن
الحاجز الثقافي بيننا وبين الحضارة الغربية سيمنعنا من فهمها واستيعابها على
وجهها، وهذا الأمر أكثر من يطرحه العلمانيون وقليل منهم الإسلاميون.
(2)
الخلط بينالعام والخاص المانع من التعلم والاستفادة، ذلك أن
النظر السطحي المتعجل قد يجعل من العام خاصا بهم أو من الخاص بهم عاما ينبغي لنا
أن نستفيد منه، ومتى حصل الخلط جاء معه بالتشوش والغبش في الرؤية وفي التعلم
والاستفادة.
(3)
والعداء المانعمن العدل والإنصاف، إذ يحسب الكثيرون
أنه لن يمكن لنا فهم الغرب ولا يمكن للغرب فهمنا طالما العلاقة بيننا علاقة صراع
ومعارك، فهذه البيئة تذهب بالإنصاف وتثمر التطرف والرفض.
(4)
والتفوق
الغربي المانع من تبَيُّن العمق والخلل، فمتى نظر المغلوب إلى الغالب لم يستطع أن
يتبين مكامن الخلل في نموذجه الحضاري، ومن ثم استحال عليه معرفتها أو التعلم منها.
(5)
والتنازل
المانع من الثبات والرسوخ، وذلك من أثر تأثر المغلوب بالغالب، إذ يسعى للاندماج
والذوبان في الحضارة الغالبة، فيضر هذا بما لدينا من اعتزاز حضاري بديننا وحضارتنا
وثقافتنا.
وقد تناولنا الثلاثة الأولى، وبقي أن نتناول الرابع
والخامس في هذه السطور القادمة:
4. الهيمنة الثقافية الغربية
ليس من أحد يستطيع تجنب سطوة أفكار المنتصرين، والتي هي
السبب الأول في التغرب، ولا ريب في أن الغوص في بطون أفكار مغايرة وطول ممارستها
وإلفها يؤدي إلى تلبس بها، وهذا الإمام الكبير حجة الإسلام الغزالي يقول عنه
تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي: "شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد
أن يخرج منهم فما قدر"[2]،
وللإمام الذهبي كلمة بديعة بليغة في وصف سطوة الأفكار وهيمنتها على الناس حتى
عقلائهم، يقول: "وخلف معاوية خلقٌ كثير يحبُّونه ويتغالون فيه، ويُفَضِّلونه،
إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإمَّا قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم
على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه
أهل العراق، ونشئوا على النصب -نعوذ بالله من الهوى-، كما قد نشأ جيش علي رضي الله
عنه ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه، والقيام معه، وبغض مَنْ بغى عليه، والتبرِّي
منهم، وغلا خلق منهم في التشيع. فبالله كيف يكون حال مَن نشأ في إقليم، لا يكاد يُشاهد
فيه إلا غاليا في الحب، مفرطا في البغض، ومَن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد
الله على العافية الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا
مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا، فعذرنا، واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا
على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علَّمنا الله:
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]. وترضينا أيضًا عمن
اعتزل الفريقين، كسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعيد بن زيد، وخلقٌ،
وتبرَّأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا، وكفروا الفريقين"[3].
ونحن نقع منذ عصر الاستعمار تحت هيمنة ثقافية غربية،
يزيد من ثقلها تلك النخب التي تغربت ثم استولت على منافذ النشر والتوجيه، ويدعم كل
ذلك هذه الفجوة المتزايدة بيننا وبين الغرب.
وقد ترتب على هذا عدد من الآثار، أبرزها هذه الثلاثة:
§
قراءة الفكر الغربي كمُطْلَق:
وذلك أنك تجد "الفكر الغربي لا تتم قراءته بمنظور تاريخاني
يكشف البعد الذاتي, بل تتم قراءته بنيويا باعتباره مجرد نسق ثقافي نقي متعالٍ, ومعزول
عن الخلفيات والدوافع البشرية والسياسية والعنصرية, فيُصَوَّر باعتباره مجرد فلسفة
تستهدف الاستنارة والسلام الإنساني وسعادة البشرية"[4]،
فمثلا: كم ممن يدرسون فرويد ونظريته حاول التعمق في السياق الذي أنتجها؟! كم منهم
يعرف "أن الجماعة اليهودية التي كان فرويد ينتمي إليها كانت تتسم بقدر عال من
التحلل الخُلقي والاجتماعي. فيهود فيينا كانوا أساسا من يهود اليديشية الذين دخلوا
مرحلة الانحلال الاجتماعي والثقافي بعد تَعرُّضهم لعمليات العلمنة الشرسة والجذرية
التي قامت بها الحكومات المطلقة (في روسيا وألمانيا والإمبراطورية النمساوية/
المجرية) وبعد دخول اليهودية الحاخامية مرحلة الأزمة، وبعد هيمنة المنظومة القبَّالية
الحلولية، فتحولوا من جماعة متماسكة إثنيا ودينيا إلى جماعة مُفكَّكة. فكانت عند يهود
المجر واحدة من أعلى نسب الأطفال غير الشرعيين، أما الجماعة اليهودية في جاليشيا (التي
أتى منها والدا فرويد) فكانت تُعد من أكبر مصادر البغايا في العالم كما سادت فيها أكبر
نسبة تكاثر بين اليهود (ولذا كان يُقال لها باللاتينية «فاجينا جودايوروم» أي «فرج
اليهود»)"[5].
§
ما تكرر تقرر
وقد كانت الحضارة الغربية صاحبة أعلى نصيب من التكرار
الذي رسخ بعدئذ حتى صارت كثير من الأمور وكأنها قد حُسِمت ولا جدال حولها، بل إن
هذا التكرار كان أحد الأسباب التي صدرت عنها أخطاء الاستشراق، إذ إن الصورة
الذهنية المسبقة كانت هي الحاكمة على الأبحاث الاستشراقية، وهو الموضوع الذي أفاض
في تفصيله إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراق"، وصكَّ لهذه العملية
تعبيره الشهير "إضفاء الصفات الشرقية على الشرقي"، وذلك أنه "حين
كان المستشرق المتبحر في العلم يتنقل في البلد الذي تخصص فيه، لم تكن تفارق ذهنه
مطلقا تلك الأقوال المأثورة المجردة التي لا تتزعزع عن الحضارة التي درسها، ونادرا
ما كان المستشرقون يهتمون بشيء سوى إثبات صحة تلك "الحقائق" البالية
بتطبيقها، دون توفيق كبير، على أبناء البلد الذين لا يفهمونها فيُتَّهمون
بالانحطاط"[6].
وإذا صحَّ هذا في حال مستشرقين لم تكن عليهم من الهيمنة
إلا آراء أساتذتهم وتخيلاتهم هم للموضوع، فكيف يكون الحال في باحث ينطلق لدراسة
الغرب وهو محمل بإرث غربي عمره نحو قرنين من الزمان، وفي ظل تفوق هائل لهذا الغرب،
وتحت تأثير آلة إعلامية جبارة تشمل حتى ذلك الإعلام الناطق بلسان العرب؟!.. إنه
لإرث ثقيل ثقيل!
§
مشكلة: الغرب مبدع والإبداع غربي
ولها ثلاث شعب كما صاغها حسن حنفي:
الأول: في حالة حدوث الإبداع فإنه يُحال إلى الثقافة الغربية
وكأنه مصدره الأول، ليس فقط في الشكل بل أيضا في المضمون، فالإبداع أيضا لا يتم إلا
في إطار التبعية، وبالتالي يتحول الكل الإبداعي عند جميع الشعوب اللا أوروبية إلى الجزء
الإبداعي الأوروبي ويلحق به بدعوى أن الكل الإبداعي قد تم في المركز وأن الأجزاء الإبداعية
في الأطراف كلها تنبع من المركز كي تعود إليه وتصب فيه.
والثاني: إذا ما توقف الإبداع كلية فإن ذلك يُعزى إلى فقر
الاطلاع على آخر الإبداعات الغربية، فلا إبداع بلا تعرف على مواطن الإبداع، وكأنه لا
إبداع في كلتا الحالتين. إذا أبدع المبدع اللا أوروبي شيئا فإنه يُحال إلى مثيله في
الغرب، وإن لم يبدع مثله فإن السبب يكون عدم معرفته بالإبداعات المماثلة في الغرب،
وبالتالي ارتبطت الأطراف بالمركز إلى الأبد إيجابا أم سلبا، وجودا أو عدما، حياة أو
موتا.
والثالث: وإذا ما أبدع المبدع في بداية نهضته فإن إبداعه
يحال باستمرار إلى إبداع مماثل في الغرب المبدع منذ العصور الحديثة وعلى أكثر من خمسمائة
عام، وبالتالي يكون الغرب أسبق باستمرار في وضع المناهج العقلانية والتجريبية والتحليلية
والبنيوية والوصفية. أما كيف تكونت هذه الإبداعات في الغرب وما مصادرها من خارج الغرب
فذاك يضرب حوله مؤامرات الصمت. فإبداعات الأطراف الآن تحال إلى إبداعات المركز السابقة
عليها، أما إبداعات المركز فلا تحال إلى إبداعات مراكز أخرى سابقة خارج الوعي الأوروبي
وهو في بداية تكوينه عندما كان يمثل أطرافا لها[7].
هذه الآثار الثلاثة للهيمنة الثقافية الغربية، والتي
نحسب أنها جماع الموضوع، تمثل أعباء ثقيلة على عقلية الباحث ونفسيته، ولسنا نرى
حلا لهذه المعضلة الكبرى إلا ما ذكرناه من ضرورة المنطلق الإسلامي والاعتزاز
بالإسلام، فذلك ما يسمح بالوقوف على أرضية صلبة ويعطي الباحث القدرة على الرؤية
الفاحصة من خارج الموضوع لا الانغماس المسبب للذهول والغرق فيه انبهارا أو تيها!
وذلك المعنى هو ما يسميه المسيري "الاحتفاظ بمسافة بيني وبين الأحداث"[8].
إنه بسبب من هذا "العبء الثقافي" كان ربنا
تبارك وتعالى يرسل الرسل إلى الناس، لأن ذلك الاتصال بالسماء يمنع من الوقوع في
أسر العبء الثقافي للأقوام الذين ضلوا، وليس بالإمكان الصمود في ظل هذه الهيمنة
الثقافية بغير مدد من الله تعالى، ولهذا -عامةً- يفشل المصلحون وينجح الرسل! ولقد
صرح القرآن الكريم بهذا المعنى لخير الناس: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وهي آية تجعل الإنسان يشعر
بضخامة الموضوع وخطورته، فمن ذا الذي يمتلك من المواهب ما كان لرسول الله r؟! ولمثل هذا حفظ الله تعالى الذكر الخاتم للعالمين ليظل معين السماء حاضرا
فيمنع الناس عن الضلال كما قال r: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه"[9].
5. التنازلات
وهذه من آثار هذا "العبء الثقافي"، فإن أكثر
محاولات الدفاع عن الإسلام، وكل محاولات تقريب الإسلام من الحضارة الغربية، هو من
ناتج هذا العبء الثقافي، فيما الواجب على المسلم أن يفتش عن مراد الله وأن يدعو
الناس إليه، لا أن يقرب مراد الله إلى مراد الناس، فيكون بهذا كمن يدعو الله إلى
الناس (أستغفر الله!) لا أن يدعو الناس إلى الله.
وهنا مزلة كبرى وقع فيها كثيرون، فمنهم من كان صريحا
كالطبقة الأولى من المتغربين، ومنهم من كان أقل صراحة وحِدَّة كأصحاب مناهج
البنيوية والتاريخانية والتأويل والتفكيك للنص والتراث، ومنهم -وهؤلاء هم موضوعنا
الآن- من رفعوا لافتة علم المقاصد فأهدروا به الكم الهائل من النصوص التفصيلية
التي مقامها أن تضبط المقصد فتُفهم المقاصد في ضوئها لا أن تسيطر
"الرغبة" على المقصد فيُستعمل ذلك ذريعة لإهدار النصوص.
إن التأسيس الشرعي القوي للمستغرب أولى أن يؤهله لفهم
وهضم المخالف، إذ الوقوف على الثوابت والمعرفة بالشريعة أدعى لأن تحكم حركة
استجابته لطوفان الفكر الغربي الذي سيخوضه، وإن التزام اللوازم واطراد الأصول شيء
لا ينجو منه صاحب فكر، فيجب أن يكون من مكانه على بينة! وإن محاولة تطويع الإسلام
والتماس الآراء الشاذة والضعيفة إنما تؤول إلى تذويب وتمييع الثوابت.
ومما يدخل في هذا الباب تقديم الحرص وحب الخير حتى يُهدر
الولاء والبراء، وكذلك تقديم قيمة التفوق التقني حتى تُهدر قيمة ما يُستعمل فيه من
خير أو شر.
ويدخل في هذا الباب أيضا أن يبدأ البعض -تحت شعار الاستغراب
ودراسة الآخر- في التخصص فيما هو محرم مثل فنون الرقص أو الإباحيات ونحوها مما هو
في الحقيقة غير مفيد، كما أنه من ثمرات ومظاهر الباطل بينما ينبغي على العلم أن
يبحث في الأصول الكبرى والجذور وبواطن الأمور، كما أن تجليات هذه الأصول فيما سوى
باب المحرم لذاته كثيرة.
نشر في ساسة بوست
[9] مالك في الموطأ
(1594)، والبيهقي: السنن الكبرى والحاكم (319)، وصححه الألباني (صحيح الجامع:
5248).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق