ذكرنا في المقال الماضي مأثرة للجنود الأتراك لما كانوا ضمن جيش الخلافة
العباسية، واليوم نحكي قصة مأثرة وقت أن كانوا في ذروة الدولة العثمانية.
يمكن القول بأن مدينة بلجراد، عاصمة بلاد الصرب، كانت
المقياس الصادق لأحوال الدولة العثمانية، فإذا كان العثمانيون في قوة ومنعة كانت
بلجراد لهم، وإن كانوا في ضعف وتراجع كانت للصرب أو للمجريين أو للنمساويين.
ومن قبل ذلك جرت ثلاث محاولات كبرى فاشلة لفتح المدينة،
منها محاولة قبل فتح القسطنطينية نفسها! ثم أنعم الله تعالى على المسلمين وفتحها
عليهم في شهر رمضان (927 هـ) على يد السلطان سليمان القانوني.
المحاولة الأولى
تبدأ القصة حين كانت الدولة العثمانية في نهوضها الثاني،
وكان السلطان مراد الثاني يتهيأ لفتح القسطنطينية، وقد كانت خطة الدولة العثمانية
هي فتح كل ما حول القسطنطينية قبل فتحها، لذلك توغلوا في أوروبا وفتحوا كثيرا من
المدن ليقطعوا المدد عنها ما استطاعوا وليتمكنوا من حصارها بريا.
وقد حقق السلطان مراد الثاني بعد جهاد كبير السيطرة على
مناطق واسعة في أوروبا إما بالحكم المباشر أو بالنفوذ والسيادة التي اعترف بها
أمراء الأفلاق (الجزء الجنوبي رومانيا) والبغدان (مولدوفيا) والأرناؤوط (ألبانيا)،
وغيرها من الأنحاء.. مما جعل الخطوة التالية هي القسطنطينية.
في تلك اللحظة تمرد أمير الصرب جورج برنكوفيتش على
السيادة العثمانية، فتوجه السلطان بجيشه إلى بلاد الصرب فحاصر مدينة سمندرية
لثلاثة أشهر حتى فتحها، وفرَّ برنكوفيتش هاربا إلى بلاد المجر، ثم حاصر بلجراد
لستة أشهر إلا أنها استعصت عليه واستبسل جنودها في الدفاع عنها.
وكانت هذه الحرب هي مقدمة تحالف صليبي واسع دشَّنه ملك
المجر، واشتركت فيه البابوية وبولندا وجنوة والبندقة والصرب والأفلاق والبيزنطيون
وكتائب من الألمان والتشيك، أوقع بالعثمانيين هزائم كبيرة اضطرت السلطان مراد
لتوقيع معاهدة هدنة لعشر سنوات تنازل بمقتضاها عن الأفلاق للمجر وردَّ للصرب بعض
المواقع واعترف بجورج برنكوفيتش أميرا على الصرب، إلا أن البابا دخل على الخط وحرض
ملك المجر على نقض الهدنة واعتبرها فرصة ممتازة للقضاء على العثمانيين في أوروبا،
وجدد ذكريات الحروب الصليبية، وجمعت أوروبا جموعها وهاجموا بلاد البلغار في لحظة
عصيبة على الدولة العثمانية، وخاضوا مع العثمانيون معركة هائلة عند مدينة فارنا
البلغارية أسفرت عن نصر مؤزر مبين للعثمانيين، وقُتِل ملك المجر ومندوب البابا
وتشتت الحلف الصليبي. وخرجت المجر (التي نقضت المعاهدة) من معادلة القوى الأوروبية
المتصارعة لعشر سنوات على الأقل بعد هذه الهزيمة الساحقة.
المحاولة الثانية
وكانت بعد فتح القسطنطينية، حيث سار السلطان محمد الفاتح
إليها (1455) لإنهاء وضعها كمركز للتمردات الصربية تنشط كلما عانت الدولة أي
اضطرابات، وكقاعدة متقدمة للجيش المجري ضد الدولة، وكحاجز ضد فتح بلاد المجر.
ولم يكن الأمر داخل المدينة مستقرا، فالصرب –وهم
أرثوذكس- خاضعون لحكم ملك المجر الكاثوليكي، وتثبت الروايات التاريخية كيف كان
الأرثوذكس يفضلون سيادة المسلمين على سيادة الكاثوليك لما يتمتعون به من حرية
دينية في ظل المسلمين لا يلقون شيئا منها في ظل الكاثوليك. ومع هذا فقد كان داخل
بلجراد في تلك اللحظة واحد من أعظم أبطالهم التاريخيين: هونياد، الذي تجمع المصادر
الإسلامية والنصرانية على بسالته وبطولته، واستطاع أن يصمد صمودا هائلا في وجه
الجيش العثماني ويدير أمر الحصار حتى رُفِع الحصار وعاد العثمانيون دون أن
يفتحوها، إلا أنه أصيب بإصابات بالغة توفي منها بعد عشرين يوما فحسب!! وصدق الذي
قال: النصر صبر ساعة!
وكان هونياد قد لقي قبل ذلك هزيمة قاسية أمام العثمانيين
وفرَّ منهم حتى اختبأ في بركة ماء لثلاثة أيام، فلما ظهر سلَّمه الصرب إلى
العثمانيين لما بينهم من عداوة المذهب، ثم أطلقه العثمانيون بشرط ألا يقاتل مرة
أخرى على أرض صربية (وهو المجري الكاثوليكي)، لكنه لم يف بعهده وحرمهم بهذا الدفاع
التاريخي عن بلجرد من أن تكون في سلطانهم لستين سنة!
وما إن مات بعد انتهاء الحرب حتى استسلمت الصرب للسيادة
العثمانية مقابل جزية سنوية، ولكنها لم تدخل في أملاك الدولة العثمانية. وحين مات
محمد الفاتح كانت جميع بلاد البلقان قد صارت في أملاك الدولة العثمانية ما عدا
بلجراد وبعض جزر البحر المتوسط التابعة لجمهورية البندقية.
الفتح
ثم جاء الفتح على يد أعظم السلاطين العثمانيين، سليمان
القانوني، وذلك حين أرسل سفيرا إلى ملك المجر يطالبه بالجزية، وهناك رفض القصر
استقبال السفير، ثم أخذوه فجدعوا أنفه وقطعوا أذنه وطافوا به المدينة ثم أطلقوه،
وتقول روايات أخرى أنهم قتلوه، فجهز سليمان القانوني جيشا هائلا قاده بنفسه وتوجه
إلى بلاد المجر، وجعل في مقدمة الجيش فرقة لفتح مدينة شابتس القريبة من بلجراد،
ففتحوها (2 شعبان 927هـ) ثم القت الجيوش وسارت إلى بلجراد فضربت عليها الحصار حتى
انهارت دفاعات المدينة واستسلم الجنود المجر في (25 رمضان 927 = 29 أغسطس 1521م)
ودخلت الجيوش العثمانية إلى المدينة المنيعة، عاصمة الصرب، التي عجز عنها مراد الثاني
ومحمد الفاتح. وصلى سليمان القانون الجمعة في بلجراد. وكان من الأخبار التي تهتز
لها أروربا لزوال الحواجز بين العثمانيين وبين بلاد المجر.
ولم يمض كثير وقت حتى بدأ العثمانيون في حصاد ثمار
الفتح، فقد انطلق الجيش العثماني إلى عاصمة المجر (بودا بست) وقد انقلب الوضع
وصارت بلجراد قاعدة عسكرية إسلامية متقدمة ضد المجر، وقاد سليمان القانوني جيشه
وافتتح عدة قلاع على الطريق حتى وصلوا إلى وادي موهاكس، وهناك دارت إحدى أكبر
المعارك في التاريخ العثماني (معركة موهاكس: 20 ذي القعدة 932هـ = 28 أغسطس 1526م)
والتي انتصر فيها العثمانيون انتصارا كاسحا أبيد فيها الجيش المجري وقُتِل ملكهم
لويس، ودخلوا به عاصمة المجر نفسها (بودا بست) (3 ذي الحجة 932هـ = 10 سبتمبر 1526م).
صحيح أن العثمانيين استولوا على عاصمة المجر، لكنهم
فضلوا أن تكون في ظل سيادتهم لا أن يحكموها مباشرة، لما في بعدها الجغرافي وظروفها
الاجتماعية من صعوبات وتكاليف، ولذلك فقد عهد بها سليمان القانوني لأحد تابعيه،
وهو يوحنا زابوليا حاكم ترانسلفا (الإقليم الغربي من رومانيا) وانتخبه المجلس
الهنغاري/ المجري، ولما تآمرت النمسا لخلعه جهز سليمان جيشا آخر ردَّ به زابوليا
إلى الحكم، بل وسار إلى حصار فيينا ذاتها عاصمة امبراطورية النمسا وقلعة آل
هابسبورج الأقوياء.
وهكذا كانت بلجراد فاتحة بوادبست التي كانت فاتحة فيينا،
ولو أن سليمان القانوني خلفه سلطان قوي لتوقعنا أن يكون الآن تاريخ آخر.
نشر في تركيا بوست