الجمعة، يونيو 13، 2014

الاحتضان الإسلامي للمنكوبين



لقد صاغ الإسلام أبناءه على مثال يجعل ديارهم ديار فضل وخير وأخلاق، لا يستوحش فيه الغريب ولا يُضام فيه الضعيف، ولم يسمح الإسلام أن تنتشر بين أبنائه أخلاق الطمع والجشع والاحتكار وما إلى ذلك مما يمزق الروابط ويبذر فيها الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ومن هنا كانت ديار المسلمين خير ديار كما كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.. وهذه هي خلاصة ما نورده في هذه السلسلة عن "جاذبية الإسلام الاجتماعية" تلك التي تنبع من المجتمع نفسه بغض النظر عن أحوال السياسة والسلطة، فتظل تؤتي ثمرتها في حال القوة والضعف، فيدخل الناس في دين الله أفواجا.

وقد تحدثنا فيما سبق عن هذا الاحتضان الإسلامي الاجتماعي لغير المسلمين بالنسبة لشرائح كثيرة مثل: السائحين، والخدم، والعمال، والموسرين، ونتناول في هذه السطور شريحة أخرى هي "المنكوبين"، وهم أولئك الذين أصابهم الدهر ببعض سهامه من نقص مال أو نقص أمن أو ظلم ظالم أو مرض أو حاجة.

لقد فرض الله على المسلمين الزكاة وجعل لها مصارف: الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، تحرير الأرقاء، الغارمين، ابن السبيل، في سبيل الله.. ثم حض المسلمين على الصدقة والإنفاق بآيات كثيرة محفوظة وأحاديث كثيرة مشهورة، ثم أنشأ الإسلام نظاما بديعا هو الوقف الخيري الذي يفتح المجال للأمة لينفق كل صاحب مال من ماله على هيئة تجعلها صدقة جارية مستمرة، ثم هي صدقة مستقلة محفوظة لأنها "حبس" موقوف لله تعالى، فلا يهيمن عليها سلطان ولا يحق لوارث منها شيء، وكان للوقف آثار عظيمة واسعة على الحضارة الإسلامية وعلى الأمة ونهضتها الشاملة التي لم تعرفها أمة من الأمم.

ثم أوجب الله على المسلمين تمتين العلاقات فيما بينهم، فأوجب الله على عباده صلة الأرحام حتى لو لم يكونوا مسلمين، وأوجب عليهم الإحسان إلى الجيران ولو لم يكونوا مسلمين بل جعل للجار حقا عظيما حتى ظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد يرث من جاره، ثم جعل رابطة الإسلام بين المسلمين هي أوثق الروابط فلا تعلوها رابطة، ثم حث على إكرام الضيف وحسن استقبال الغريب وإعانة المنقطع حتى يبلغ حاجته، وأمر بإجارة المستجير حتى يبلغ مأمنه، وحث على تفريج الكروب وإعانة المحتاج والسعي في قضاء حوائج الناس.

وبالجملة فقد تأسس المجتمع الإسلامي على نحو يجعل العلاقات تبلغ حدا متينا مترابطا، تهيمن عليه حالة من العطاء المستمر التي يساهم فيها أهل السراء وأهل الضراء، ولقد كان من العجيب أن يأمر الله من يجد ما يفيض على حاجة يومه بأن يخرج صدقة الفطر التي يتعلق عليها صيام الفريضة في شهر كامل.. وهكذا انطلقت الأمة في أرض الله تبعث في الناس روحا جديدة، ويرى منها الناس ما لم يألفوه، فدخلوا في دين الله أفواجا، ولو كان قبل قليل قوما محاربين، ولو كانوا هم المنتصرين كما كان حال المغول عموما والصليبيين أحيانا.

ولو أردنا أن نضرب الأمثلة لطال بنا الحديث جدا، بل ولو اقتصرنا على التقاط أمثلة لطبيعة المجتمع الإسلامي التي احتضنت المنكوبين من غير المسلمين وهو في حال الضعف والفقر والاحتلال لاحتجنا إلى سجل طويل، ولكن لا بأس من شذرات سريعة متنوعة الزمان والموضوع:

1. انتشرت ظاهرة في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية بين الجنود الألمان الذين يأسرهم الإنجليز في مصر، فإذا بأولئك الألمان ما إن يتمكنوا من الهرب –وأحيانا بمساعدة المصريين- حتى يدخلوا في الإسلام ويعمدون إلى أحدى القرى المصرية فيندمجون بها ويتزوجون ويعملون عمل الفلاحين ويتسمون بأسماء المسلمين، وذلك بأثر ما لاقوه وعرفوه من أخلاق القرويين المصريين.. ومثل ذلك تكرر في كل ديار الإسلام –التي هي مقهورة محتلة- من إندونيسيا والهند شرقا حتى الجزائر غربا، وكان هذا يتم بطريقة طبيعية لا تلفت نظر كثير من المؤرخين وإنما نلتقطه سراعا بين سطور مذكرات بعض من عاشوا وقتها.

2. وقبل عصر الاحتلال سنجد أن الدولة العثمانية –التي يراها البعض أسوأ تمثيل للحكم الإسلامي- تسجل صفحات فخار طويلة في احتضانها للمنكوبين المضطهدين في أوروبا التي كانت تطحنها الصراعات الدينية في ذلك الوقت بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، ولكم نادى بعض الناس في ممالكهم على العثمانيين أن يحكموا بلادهم لينقذوهم مما هم فيه من مظالم، ولكم احتفظ التاريخ بوثائق يشهد فيها الأحبار والرهبان والقساوسة بأن حكم المسلمين أحب إليهم من حكم بني جلدتهم، يقول توماس أرنولد: "وطالما دعا الأهلون الأتراك في عهد ميخائيل الثامن إلى الاستيلاء على مدنهم الصغيرة في داخل آسيا الصغرى؛ تخلصا من استبداد الدولة، وكثيرا ما هاجر الأغنياء منهم والفقراء إلى الولايات التركية"[1]، ومن ذا ينسى أنه حين اشتعلت أكبر جريمة إبادة عرقية ودينية في التاريخ، وهي محاكم التفتيش في إسبانيا الأوروبية، لم يتسع صدر العثمانيين لإنقاذ ولا لاحتضان المسلمين فحسب، بل وسع معهم اليهود كذلك.. أولئك اليهود الذين كان تحالف أحفادهم مع أحفاد من أحرقوهم لإسقاط الدولة العثمانية بعد أربعة قرون، ولسنا من النادمين على خير فعلناه، وإن كان لهذا حديث آخر.

3. وفي عصر الأيوبيين ضرب صلاح الدين المثل السامي في التعامل مع المهزومين، فكان أحسن لهم من ملوكهم وأحبارهم ورهبانهم، فمنَّ عليهم بإطلاق الأسرى وعلاج الجرحى وإكرام الأمراء المهزومين وتوفير الدابة التي تنقلهم إلى حيث يأمنون، حتى لم يكد الصليبيون يصدقون مثل هذه الأخلاق، حتى لم يجد بعضهم إلا الزعم بأن أصوله تعود "إلى الأسرة المسيحية، فأمه هي الكونتيسة بونثيو التي تحطمت سفينتها على الساحل المصري، وأنه هو نفسه اعتنق المسيحية وهو على فراش الموت"[2]، ولقد أثمرت هذه الأخلاق موجة من إسلام الفرسان وعموم الصليبيين، لا سيما وقد كانوا يتوقعون أن يفعل بهم مثلما فعل آباؤهم بالمسلمين حين اقتحموا بيت المقدس حين خاضت الخيول في الدماء.. ولا يستطيع مؤرخ لديه الحد الأدنى من النزاهة العلمية أن يؤرخ لفترة الحروب الصليبية دون أن يتوقف عند أخلاق صلاح الدين، حتى إنه لواحد من أكثر من ألفت عنه مؤلفات بكافة اللغات، وكفى بهذا سفيرا حسنا للدين ومقولة صدق في الآخرين.

4. وفي أيام العباسيين نجد المستشفيات الإسلامية تفتح أبوابها لكل مريض فيقيم فيها إقامة كاملة مع خدمة دائمة حتى يستكمل علاجه، بغير اشتراط أن يكون من المسلمين أو من أهل البلد أو ممن يستحقون التأمين الصحي للمواطنين[3]، ولقد عرضت المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه رسالة مريض أوروبي لأهله عن المستشفى العضدي لبيان ما تمتعت به المستشفيات الإسلامية من تطور ومن رحمة بالمنكوبين[4]، وكانت القوافل الطبية التي تسيرها "وزارة الصحة العباسية" –إذا استعملنا مصطلح العصر- لمن لا يحصلون على الخدمة الطبية لكونهم في الأطراف والأدغال تعالج كل أحد مسلما أو غير مسلم، ومن لطيف ما حفظه التاريخ -في شأن المنكوبين- كلمة الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت رئيس أطباء بغداد في سنة وباء يقول له: "فكرت -مد الله فِي عمرك- فِي أمر من فِي الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض وهم معوقين من التصرف فِي منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء فِي أمراضهم فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم فِي كل يوم ويحملون معهم الأدوية والأشربة وَمَا يحتاجون إِلَيْهِ من المزورات وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس ويعالجوا من فِيهَا من المرضى ويريحوا عالمهم فيما يصفونه لهم إن شاء الله تعالى" ثم أصدر قرارا آخر بتسيير قوافل طبية لمناطق الأدغال والأطراف التي تعاني نقص المستشفيات، على أن تجهز القافلة بما يكفي من الأطباء والأدوية فتمر على القرى وتمكث في كل منها حتى تستكمل مهمتها ثم تجوزها إلى غيرها، وكانت القافلة تعالج المسلمين وغير المسلمين بل وما استطاعت من الحيوانات والبهائم[5].

5. وفي عهد الخلافة الراشدة، نجد الفاروق رضي الله عنه يمر ذات يوم بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟! قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر -رضي الله عنه- بيده، وذهب به إلى منزله؛ فرضخ له بشيء مما في منزله، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم؛ {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60]. والفقراء: هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية، وعن ضربائه[6].

لقد اقتصدنا كثيرا في ذكر أمثلة تاريخية لضيق المقام، لكن الخلاصة من كل ما سبق أن بلادنا ينبغي أن تكون زاخرة بالمؤسسات التي تعين المنكوبين، من المسلمين وغير المسلمين، في كافة المجالات من أول التوسع في تيسير اللجوء السياسي للمظلومين والمضطهدين مرورا بالخدمات العابرة كالعلاج وإعانات البطالة وانتهاء بتيسير السفر إلى حيث يبلغ المحتاج مأمنه ومطلوبه.

فإن كان بعض هذه الأمور مما لا تقوم به إلا السلطة فينبغي حثها على هذا وبيان الأثر الجميل له في الدنيا عند الناس وفي الآخرة عند رب الناس، فإن امتنعوا ففيما بقي من الخدمات والأمور متسع يقوم به الصالحون وذوي العطاء وأهل الدثور فيفرجون عن عباد الله الكروب ويكونون بابهم إلى الدخول في دين الله تبارك وتعالى.

ومن المهم الذي ينبغي قوله في موضوع "الاحتضان الإسلامي للمنكوبين" هو ما يفعله من جمعتهم النكبة الواحدة، فيكون المسلم داعية إلى الله يدعو غير المسلم الذي جمعته به نكبة واحدة، وقدوتنا في هذا نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان داعية في أصعب لحظة مرت عليه: لحظة الطائف، إذ لم يهمل دعوة عداس الخادم الذي قدم له قطفة عنب، ومن قبله سيدنا يوسف الذي جمعه السجن بصاحبين فكان أول كلامه معهما أن يدعوهما إلى الله، وكم اضطرد هذا في تاريخ الإسلام حتى العصر الحاضر، فكم من سجين التقى في السجن بداعية مظلوم فلم يزل يحوطه ويرعاه ويتعهده بالتربية والتعليم حتى خرج شخصا جديدا، وكم من شرطي اهتدى بعد ظلمه لما رآه من قوم كان يعذبهم أو قوم اهتدى حين رأى ثباتهم وبشارة الله لهم لحظة إعدامهم، وهي أمور مشهورة يعرفها كل قارئ لقصص التائبين وقصص من أسلموا، ولعل من أشهر الأمثلة التي يعرفها القراء مثال مالكوم إكس الزعيم الأمريكي المعروف الذي كان لحظة فارقة في مسار المسلمين والسود في أمريكا، وكذلك مثال الملاكم المعروف محمد علي كلاي والذي أسلم في سجنه.

إن المنكوبين أحوج الناس إلى خلق حسن، وإن رسالة الإسلام إنما هي تتميم لمكارم الأخلاق، وليس يُنتظر من الغيث النافع حين يقع على الأرض العطشى إلا ثمرة يانعة تغذي الآكلين وتسر الناظرين.

نشر في مجلة البشري، شعبان 1435هـ = يوليو 2914


[1] يرجى النظر في الفصل الذي كتبه توماس أرنولد عن العثمانيين في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" ففيه شهادات كثيرة ونصوص وثائق ودلائل قاطعة، والاقتباس في المتن من ص116، 117.
[2] مكسيم رودنسون: الصورة الغربية والدراسات الغربية والإسلامية، منشور في "تراث الإسلام" بإشراف شاخت وبوزوروث، ص41، 42.
[3] كما هو في بعض البلاد التي تزعم الإنسانية ولا يحرك إنسانيتها أن يموت مريض لا يملك الجنسية أو لا يستحق خدمة التأمين الصحي!!!
[4] زيجريد هونكه: شمس الله تسطع على الغرب ص 227، 228.
[5] ابن القفطي: إخبار العلماء بأخيار الحكماء ص150، 151.
[6] أبو يوسف: الخراج ص136، وابن زنجويه: الأموال، 1/ 162، 163.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق