الاثنين، يونيو 02، 2014

الحدائق الإسلامية



قليلا ما يلتفت الباحثون إلى "الحدائق" في حضارة الإسلام، وأغلب الظن أن ما بقي من آثار العمران الإسلامي قد سلب العيون عما اختفى منه، فالقصور والقلاع والأسوار والأبواب والزخارف والنقوش والخطوط وغير ذلك شغلت الأبصار والقلوب عن شيء كالحدائق، تلك التي لم يبق من أثرها شيء تقريبا.

ولا يصح تصور المدن الإسلامية بغير تصور الحدائق، ذلك أنها انتشرت في كل مكان حتى لقد ذهب بعض الباحثين إلى القول بأن المسلمين نظروا إلى الحديقة باعتبارها الأصل والعمران هو التابع لها[1].

عالم من الحدائق

لا يكاد المرء يمر على كتاب في التاريخ أو البلدان فيحاول رسم صورة لما يقرؤه إلا وتكون الحديقة أساسا وأصلا في هذه الصورة، لقد كان العالم الإسلامي كأنه قطعة خضراء، وما كان ثمة من يحب التفنن في شيء إلا وبنى حديقة أو بنى شيئا له حديقة: قصرا أو مسجدا أو مستشفى أو مدرسة .. إلخ.

وإذا كانت الحديقة أمرا طبيعيا في القصور، فإن المثير للعجب هو انتشار الحدائق حتى في بيوت الفقراء مهما كانت متناهية في البساطة، يقول المؤرخ الأمريكي ول ديورانت: "وكانت بيوت الفقراء وقتئذ -كما هي الآن- أبنية مستطيلة الشكل؛ مقامة من اللبن الملتصق بالطين، سقفها خليط من الطين، وأعواد النبات، وغصون الأشجار، وجريد النخل، والقش. وكانت البيوت الأرقى من هذه نوعا تشتمل على فناء داخلي مكشوف، ذي فسقية، وشجرة في بعض الأحيان؛ وكانت تحتوي أحيانا على طائفة من العمد الخشبية، ورواق مسقوف بين الفناء والحجرات"[2]، وذات العجب يبدو واضحا من كلام الباحث المتخصص في الأندلسيات جيمس دكي لدى حديثه عن الدور الصغيرة في غرناطة بأنه "مع أن أغلب تلك الدور صغير إلا أن فيها جميعا مياها جارية وزهورا وورودا عبقة وشجيرات ووسائل راحة كاملة، تبرهن على أن هذه الأرض عندما كانت في يد الموريين (المسلمين) كانت أكثر جمالا مما هي عليه اليوم"[3].

وحين عزمت السلطات المغربية ترميم النافورات القديمة في مدينة فاس وحدها، أحصت في شوارع فاس نحو 70 نافورة، وحوالي 400 نافورة داخل المساكن والمساجد والمدارس العتيقة[4].

ويندر أن تجد في بلاد الإسلام مدينة معروفة ولا يحكي مؤرخها عما كان فيها من رياض وجنان وحدائق، وكم من بلاد نزلها المسلمون فحولوها من خرائب إلى حدائق غناء، ويكفي أن تعرف أن كل نخيل الأندلس إنما هو من نخلة حملها عبد الرحمن الداخل من الشام.

فكيف بما بناه الملوك والأمراء والأغنياء من قصور ورياض وجنان وبساتين، عامة أو خاصة، منفردة مقصودة بذاتها أم ملحقة بقصر أو مسجد أو مدرسة أو ما سوى هذا؟!!

لقد انعكس كل هذا على النفس الإسلامية التي تأثرت بالجمال والرقة إلى حد لم يبلغه أحد من قبلها أو من بعدها، إلى حد جعلها تتخذ زخارفها من النباتات، بل إلى حد جعلها تسمي كتبها بتلك الأسماء العجيبة "رياض الصالحين"، "الزهر النضر"، "بستان الواعظين ورياض السامعين"، "الروض الزاهر"، "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب"، "بدائع الزهور في وقائع الدهور".. فأي أمة جعلت أسماء كتبها على هذا النحو؟!!

حدائق قرآنية

فلقد كانت الآيات والأحاديث هي الأستاذ الأول في اصطناع المسلمين لحدائقهم، فمن قوله تعالى (كمثل جنة بربوة أصابها وابل... الآية) فهموا أن خير أماكن الحدائق هي الرُبى والمرتفعات، وهذا صحيح علميا؛ إذ يجنب الارتفاعُ الأشجارَ عدة عوامل معوقة للنمو والإثمار الجيد وأسباب المرض كالتقاء الجذور بالمياه الجوفية التي تحد من نموها وتصيبها بالتعفن، كما يوفر الارتفاع تصريفا مناسبا للماء الزائد، وإذا لم ينزل المطر رويت هذه الحدائق بطريقة الرش والرذاذ[5]، ومن أمثلة هذا جنة العريف في غرناطة، إذ أقيمت على سفح ربوة، وصممت على هيئة مدرجات ينهمر عليها الماء من عيون بأعلى الحديقة تصب في قنوات تمر عبر الأشجار، بما يدل دلالة واضحة على التأثر بآية (وماء مسكوب)[6].

وينقل لنا المقريزي أن خمارويه بن أحمد بن طولون طلى جذوع النخل والشجر بالنحاس المذهب فكأنه كان يحاكي وصف الجنة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب"، وجعل بين جذع النخلة وطبقة النحاس أنابيب رصاصية يتدفق منها الماء فكأنه يتدفق من النخلة ثم يجري في مسارات محكمة إلى أحواض تفيض الماء على باقي الحديقة فكأنه بهذا يحاكي الجنة في قوله تعالى (إن المتقين في جنات وعيون) [7].

وحتى في الأسماء نجد ذات التأثر واضحا، فقد "سُمِّى قصر المنصور "الخُلْد" تشبيها له بجنة الخلد، وما يحويه من كل منظر رائق ومطلب فائق وغرض غريب ومراد عجيب"[8].

وهذا التأثر بالآيات والأحاديث إنما هو تأثر متضاعف، فهو علامة على الارتباط بالكتاب والسنة ثم هو من عوامل زيادة الارتباط بالكتاب والسنة في الوجدان العام.

حدائق بأدب الإسلام

كانت الحدائق جزءا من نمط العمارة الإسلامية التي تهتم بالداخل والراحة النفسية أكثر من اهتمامها بالخارج ومظاهر الاستعراض، ويهتم نمط العمارة الإسلامية في البيوت وأبوابها ونوافذها بصيانة البيت وأهله من التكشف، فأبواب البيت مائلة بزاوية لا تسمح لنظر ناظر بكشف الداخل وكذلك النوافذ فهي مزخرفة منمقة تسمح لمن بالداخل برؤية الخارج فيما يتعذر العكس.

وكذلك كانت الحدائق، فهي محاطة بأسوار عالية أو بطوق من النخيل يحجب رؤية الداخل عمن بالخارج فيوفر لمن بالداخل راحة وأمنا وخصوصية، وحتى في البيوت الأصغر كانت الحدائق في فناء البيت الداخلي لا في محيطه الخارجي، بل وحتى في القصور كثيرا ما كانت الحدائق بين الأبنية الداخلية وليست فقط محيطة بها.

وقد انعكس كل هذا الحياة الاجتماعية للمسلمين، ففي حين احتاجت الحضارة الغربية إلى شوارع واسعة وحدائق عامة وميادين ذات نوافير، كان كل هذا متوفرا في داخل البيوت في الحضارة الإسلامية، مما انعكس بدوره على متعة أكثر في الداخل وعلاقة أمتن بين الأسرة وذوي الأرحام وبين أطفال البيوت، ووفَّر فرصا أقوى لتربية الأطفال وتقوية الأرحام وتحقيق المتعة في بيئة آمنة، ولم يمنع هذا من كون المتنزهات العامة والحدائق الكبرى مزيد متعة ولكنها في هذه الحال متعة ثانوية لا أساسية كما هو الحال في الحضارة الغربية وواقعنا المعاصر.

نشر في مجلة الوعي الإسلامي، شعبان 1435هـ = مايو2014م


[1] جيمس دكي: الحديقة الأندلسية، منشور في: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الجيوسي 2/1435.
[2] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/241.
[3] جيمس دكي: غرناطة.. مثال من المدينة العربية في الأندلس، منشور في: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، تحرير: سلمى الجيوسي 1/ 176.
[4] جريدة الشرق الأوسط 27/10/2002.
[5] المقريزي: الخطط والآثار 1/872، ويحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص214 وما بعدها.
[6] يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص223.
[7] الترمذي (2525)، وصححه الألباني.
[8] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 1/ 75.

هناك تعليق واحد:

  1. كنت أنبهر من صور بيوت الأندلس وكأنها جنة
    وأتعجب لماذا ليس عندنا هذا الجمال
    أصبحت كل الحياة فاسدة وليست الأدبية فقط كما كان يقول الشيخ محمود شاكر

    ردحذف