الاثنين، يونيو 30، 2014

كيف صنع الإسلام "المجتمع المتين"



حين كتب مايكل هارت كتابه عن العظماء المائة في تاريخ الإنسانية وضع محمدا –صلى الله عليه وسلم- على رأسهم، وقال: "لا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدا هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي"، وهو بذلك يوضح لماذا لم يضع المسيح في هذه المكانة لأن نجاح المسيح كان دينيا فحسب كما يقول.

هذه الدهشة منتشرة في كتابات الغربيين الذين لا يكادون يصدقون أن رجلا استطاع تحويل أمة العرب من حالها القديم إلى هذا الحال الذي جعلها تقيم أعظم وأرسخ إمبراطورية في التاريخ بهذه السرعة.

ويكمن السرُّ في أن رسالة النبي لم تكن مجرد نصوص ترشد إلى مكارم الأخلاق، بل كانت نصوصا تنشئ أنظمة وتصنع مجتمعا وتؤسس طريقة حياة، وهذا هو مدخلنا إلى الموضوع.

إن في نصوص الوحيين ثروة فياضة في موضوعات الرحمة والبر والإحسان والبذل والإنفاق وحسن الخلق، وهي ثروة أكثر عمقا واتساعا مما تحفل به الأديان والمناهج الفلسفية والوضعية، لكن التفوق الإسلامي كامن في تأسيس نظام حياة يمهد الأرض ويصنع البيئة لعمل هذه النصوص، فلا تبق حينئذ مجرد حِكم ووصايا محلقة في خيال المثال وفضاء الأحلام كما هو الحال في الفلسفات والمناهج الأخرى.

إن مجرد المبادئ الإنسانية لا تؤثر إلا في النفوس الفاضلة، وتلك النفوس قلة في هذه الدنيا، بينما يختلف الحال حين تقام النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحيث تجعل عمل الخير طبيعة يومية، فحينئذ لا يتخلف عن فعل الخير إلا النفوس الخبيثة، وهي أيضا قلة قليلة.

فكيف أسس الإسلام نظامه الاجتماعي فحقق ثورة في العمل الخيري؟!

لقد أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على قاعدة يمكن أن نسميها "المجتمع المتين"، وذلك بإنشاء روابط وعبادات ومؤسسات تزيد من قوة هذه العلائق وتماسكها.

فأما الروابط فهي ثلاثة: رابطة الدين، رابطة الرحم، رابطة الجوار.

فرابطة الدين تؤسس لعلاقة بين المؤمنين ليكونوا "كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، و"كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا"، ولكل مسلم حقا على كل مسلم وإن لم يشترك معه في رحم أو جوار أو لغة أو لون أو جنس.

ورابطة الرحم تجمع الإنسان بذوي نسبه، وتبلغ صلة الرحم من المكانة أن الله اشتقها من اسمه فوصل من وصلها وقطع من قطعها، والمسلم يصل أرحامه وإن لم يكونوا مسلمين. وهذه الرابطة فطرة إنسانية يقويها الإسلام وينميها، ويخطئ البعض حين يتصور أن الإسلام أتى بما يحل علاقة القبيلة ليجعل محلها علاقة الدين، فالصحيح أن الإسلام رفع علاقة الدين فوق كل علاقة ليكون الحق هو أساس كل شيء وهو المهيمن على كل حركة، لكنه أبقى كل علاقات الوصل الطبيعية في المجتمعات كما هي بل وساعد في تقويتها وإنمائها، ولقد كان النبي يقول قوموا لسيدكم، ويأخذ البيعة من نقباء أقوامهم، وظلت الجيوش الإسلامية تقاتل في كتائب قبلية وعلى نحو ترتيبها في الموقع الجغرافي من الجزيرة العربية، بل ولا بأس أن تستعمل رابطة القبيلة في التحفيز كما فعل خالد وهو يخوض معركة المرتدين من أتباع مسيلمة.

ورابطة الجوار تجمع بين الإنسان وجيرانه، وحق الجار –وإن لم يكن مسلما- من الحقوق المقدرة في الإسلام، حتى ظن النبي يوما أن الجار سيرث في جاره، ووصل الأمر إلى حد نفي الإيمان عمن بات شبعانا وجاره جائع، بل عمن لا يأمن جاره أن يصيبه شيء من شره!! وهي درجة غير مسبوقة في العلاقات الإنسانية.

فبمجموع هذه الروابط الثلاث يتحول المجتمع المسلم إلى بناء متماسك متحد متين.

ثم تأتي العبادات فتدعم وتقوي هذه العلاقات، ففي الصلاة يجتمع أهل الحي خمس مرات في اليوم، وإنفاق الزكاة على الأقارب أولى من إنفاقها على غيرهم وعلى الجيران قبل غيرهم، وتفطير الصائم وتقسيم الأضاحي والتصدق والإهداء وكل ذلك ينفقه المرء على الأقرب فالأقرب.. وكل هذا يمهد النفوس لعلاقة قوية تسمح بوجود عبادة أخرى تنتشر في المجتمع كالشرايين في الجسد: عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أمر يبذله المسلم بدافع الحب والحرص والشفقة على من يجهل ومن يغفل ومن يزل، فيأخذ المجتمع بعضه بيد بعض.

وكثير من هذه العبادات يستلزم إنشاء مؤسسات، فالصلاة –وهي أعظم عبادة- تقام في المسجد –أعظم مؤسسة إسلامية- والذي هو كالقلب لكل حي، يجتمع فيه الناس على العبادة وعلى ما شاءوا من أنواع الطاعة، خمس مرات في اليوم بحد أدنى، ثم هو ملتقاهم فيما يعن لهم من أمور، وهو منبر التوجيه والتذكير والتحريض على فعل الخير. والزكاة تستلزم إنشاء مؤسسة الزكاة التي تجمع أموال الأغنياء فتوزعها على الفقراء. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استلزم إنشاء مؤسسة الحسبة التي كانت أول مؤسسة دينية رقابية، وقد استلزم الإنفاق إنشاء مؤسسة الأوقاف التي هي ابتكار إسلامي فريد جعل الأمة قادرة على تمويل مشاريع الخير وإنشاء نهضتها بنفسها وإن ضعفت السلطة السياسية.

كل هذه الشبكة المبنية من روابط مدعومة بعبادات تستلزم –في كثير من الأحيان- مؤسسات جامعة، كل هذا جعل المجتمع الإسلامي بنيانا متينا متماسكا، ولهذا كان المسلم يستطيع التطواف في أرض الإسلام ولا يشعر بوحشة الغربة، ويستطيع طالب العلم أو الرحالة أو المهاجر أو ذو الحاجة في الشرق والغرب أن يطوف في الطلب وهو يجد في رحلته من ينفق عليه ويستضيفه ويوفر له ما يعينه على رحلته.

في مجتمع كهذا تكون النصوص والمبادئ التي تحض على فعل الخير واقعا ملموسا لا مجرد نصائح تنتظر نفسا نبيلة تطبقها، ومن هنا تبدأ النهضات الحقيقية للأمم، حين يتحول بناؤها الفكري إلى نظام حياة، وساعتها لا يكون فعل الخير فعلَ أفراد معدودين، بل فعل مجتمع كامل لا يتخلف عنه إلا أفراد معدودون! وشتان بينهما!

فهل معنى هذا أن العمل الخيري في الإسلام مقتصر على المسلمين داخل المجتمع الإسلامي؟

والجواب: لا، فرسالة الإسلام للناس كافة، ورسول الإسلام رحمة للعالمين لا المسلمين وحدهم، وفي نصوص الوحي من الرحمة بالناس والشفقة بهم والحرص عليهم ما لا يوجد في غير هذا الدين، بل في الإسلام من الرحمة بالكائنات والنباتات والجماد والموارد والبيئة ما يطول فيه الحديث جدا ولا يوجد في غير هذا الدين أيضا.

إنما كان مقصد هذه السطور بيان أن الإسلام جعل عمل الخير نظاما لا مجرد نصائح، ينبعث له مجتمع حاشد لا قلة فاضلة.. ولذلك لم يمدح الله المسلم لأنه امرؤ يفعل الخير للناس، بل امتدح الأمة بأنها "خير أمة أخرجت للناس".

نشر في مجلة الوعي الإسلامي، رمضان 1435هـ، يوليو 2014م.

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف12:42 ص

    كلام طيب ورصين ما شاء الله

    ردحذف