قال عمر بن
الخطاب لزياد بن حدير: أتعرف ما يهدم الدين؟ قال: لا. قال عمر: زلة العالم، وجدال
المنافق بالقرآن، وحُكْم الأئمة المضلين.
وقد شهدت
السنوات الماضية من المحن والزلازل العامة في الأمة ما جعل كثيرا من الرموز تتساقط
من بعد ظهور، وتنطفيء من بعد إشراق، وتصير موضع الذم والنقمة من بعد ما كانت تُفدى
بالأرواح والأموال، حتى صار من أكثر ما يصلني من الأسئلة سؤال: لمن نسمع من المشايخ؟
ومع أن كثيرا
ممن سقطوا لديهم من العلم والمعاني ما لا غنى عنه إلا أن عموم الناس لا يستطيع أن
يفرق بين مقام الاستفادة ومقام الاقتداء، فالغالب على الناس أنهم ينتمون لمن يثقون
به، ولا يحبون ولا يقبلون له أن يسقط فيما يسقط فيه غيره، ومن هنا كانت مكانة
العلماء ومقامهم إنما تُسْتَحَقّ بما هم عليه من العمل بما لديهم من العلم.
ولذلك كانت
مواقف العالِم أشهر وأظهر وأذكر من أكثر علمه، وإن أغلب العلماء المشاهير في
تاريخنا الإسلامي الذين خلد علمهم إما كانوا في مواجهة ظلم السلطة ومنهم من قضى
قتيلا أو أسيرا، وإما كانوا منصرفين عن أبواب السلاطين مستغنين عن الورود عليهم
وحضور مجالسهم، حتى صار من عادات كتب التاريخ أن تشيد بالعالِم وتذكر موقفه من
السلطان، وأن تزري بمن كان على غير ذلك.
وقد لاحظ المستشرق
الأمريكي مايكل كوك، صاحب أوسع دراسة عن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
الفكر الإسلامي" أن مؤرخي التراجم يهتمون بإيراد وقائع مواجهة السلطان أكثر
من اهتمامهم بتفصيل واقعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي بدأت بها هذه
المواجهة، ذلك أن "المواجهات مع السلطان عند كُتَّاب السِّيَر وقائع جديرة
بالاهتمام في ذاتها، تُضفي علي شخصياتها هالة ساطعة"[1].
وهذا الكلام أشبه بكلام سيد قطب من قبله وهو صاحب العبارة الذائعة الشهيرة التي
قالها في رثاء حسن البنا: "إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في
سبيلها دبَّتْ فيها الروح، وكُتِبت لها الحياة"، وهو أيضا القائل: "إن
أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا ولكن بشرط واحد:أن يموتوا هم لتعيش
أفكارهم، وأن يُطْعِمُوا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، وأن يقولوا ما يعتقدون أنه
حق! ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق"[2]،
وقد صدَّق سيدٌ كلماته هذه فهو اليوم أشهر وأبقى من جميع معاصريه من الواردين على السلاطين
المتمتعين بالقرب منهم.
وصرت إذا
سُئلت: لمن نسمع بعد هذا السقوط المريع؟ أجيب: إن هذه المحن بقدر ما أسقطت كثيرا
بقدر ما كشفت عن معادن أخرى أصيلة، أولئك الذين ستجدهم في الشهداء أو الأسرى أو
المنافي، وكان أول ما يخطر على البال منهم: الشيخ الكبير الجليل والأسير البصير
حازم أبو إسماعيل.
من الناس من
عرف الشيخ حازما داعية وحسب، ومن الناس من عرفه سياسيا فحسب، وقليلٌ من عرفوه في
وجهيه: الداعية السياسي، والواقع أنه من الظلم أن يُقتصر في معرفة هذا الرجل
الكبير على أحد هذين الوجهين، إذ لا تكافئ عبقريته في فهم السياسة وألاعيبها
ومشهدها الحافل بالمخادعات والمناورات إلا عبقريته في استخلاص المعاني الروحية
والإيمانية والفكرية من القرآن والسنة، وهو من الدعاة النادرين الذين يتوازن في
خطابهم مطلب العقل والفكر مع مطلب النفس والروح، ثم هو يصوغ هذا كله في عبارة
بسطية سلسلة مفهومة لأبسط الناس، وبهدوء يُغبط عليه!
لقد كان للشيخ
حازم اليد العليا في تغيير مسار الثورة المصرية، فمن قبله كان أقصى طموح
الإسلاميين أن يحوزوا ثلث مقاعد البرلمان فلا هم سينافسون على رئاسة ولا حتى على
أغلبية برلمانية، ثم سارت بهم ألاعيب العسكر نحو تطويل الفترة الانتقالية التي
أوشكت أن تُصَفِّي الثورة، ولولا حازم وما حققه من شعبية كاسحة في وقت مذهل ما
أمكن إلزام العسكر في مصر بموعد تسليم السلطة (التي حددوها بعد تهديده الشهير في
أحداث محمد محمود الذي كانت شرارتها مظاهرة دعا إليها بعنوان: جمعة المطلب الوحيد تسليم
السلطة)، ثم إنه بترشحه للرئاسة وشعبيته الجارفة التي لم يكن له فيها منافس إنما
كان السبب في تمهيد الطريق للرئيس الإسلامي، ولولا ذلك لكان مصير ثورة مصر كمصير
ثورة تونس: إعادتها من جديد للنظام القديم وبشرعية كاملة!
اجتمع في حازم
أبو إسماعيل ما تفرق في غيره، حتى كان كل طيف إسلامي يرى فيه شبها منه، إذ لديه
العقل الحركي الإخواني، والسمت الظاهر السلفي، والروحانية الصادقة الصوفية، والرقة
الدعوية، والثورية الجهادية، مع دقة قانونية وعقل نخبوي منظم، وكان فوق ذلك كله
حصيفا يمزج كل هذا ببعضه فلا ينفر منه أحد من هؤلاء على ما بينهم من الخلافات
ومناطق الاحتكاك.
ولئن كان هذا
قد ظهر بقوة في مساره السياسي القصير بعد الثورة، فإن هذا نفسه لا زال حاضرا في
مواده الصوتية والمرئية، وقد قامت مجموعات من الشباب بجمع تراثه المسموع والمرئي
فأنجزوا بهذا عملا جليلا، وزادوا على ذلك خدمةَ بعض المواد بتفريغها كتابة
وتحويلها إلى جرافيكس ونحوه (اضغط هنا)، وأزعم أن
الذي سيستمع إلى هذا الإنتاج فإنه سيجد كلاما جديدا ومعاني لم يسبق أن وجدها عند
أي داعية آخر.
ومن هذه
النافذة فإني أحب أن أوجه نداء لمن يستطيع من الشباب، أن تنشأ منصة إلكترونية تجمع
أعمال العلماء والمشايخ الأسرى، وكم في سجوننا العربية من أفذاذ كبار، وهذه السجون
تحبس أجسادهم كما تحبس علومهم أن يُنتفع بها. وأحسب أن هذه المنصة ستوفر غناءً
لأغلب الشباب وعموم الناس الذين يعانون من الصدمة في كثير من المشايخ، حتى إن
كثيرا منهم انزلق وانحرف كثيرا.
لئن كان بعض
أولئك المشايخ سببا في انحراف كثيرين بما كان لهم من الشهرة والتصدر، فيجب أن يكون
ثمة مجهود مقابل يشير إلى أولئك العلماء والمشايخ الثابتين الصامدين الذين لم
يبيعوا دينهم وفضَّلوا أن يقاسوا التعذيب والسجن، فأولئك هم أسباب الثبات والصمود
لعموم الناس وللشباب الذين لم يفقدوا بعدُ إيمانهم.
هذه المنصة قد
ينبثق عنها مجلة إلكترونية، وإذاعة على الانترنت، وربما قناة فضائية أيضا (فلا
تعدم الأمة منفقين في وجوه الخير ومتطوعين لحمل هذا العبء) ستمثل بابا من أبواب
الحفاظ على الدين وتثبيت الشباب وهداية الناس وإظهار الوجه الحقيقي لعلماء
الإسلام، كما ستمثل نافذة لأصوات العلماء الأسرى الذين لا يملكون أن يتكلموا!
وهي في
النهاية حديقة غناء باسقة مثمرة، فكيف ببستان يجتمع فيه حازم أبو إسماعيل وصلاح
سلطان وعبد العزيز الطريفي وإبراهيم السكران وسفر الحوالي وسلمان العودة ومحمد
موسى الشريف وعوض القرني ووليد الهويريني وعلي العمري وحسام أبو البخاري وغيرهم
ممن حيل بينهم وبين الأمة؟!
أسأل الله أن
يجد هذا النداء من يستجيب له فيكون عملا صالحا في ميزان صاحبه أبد الدهر.
نشر في الخليج أون لاين
[1] مايكل كوك، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
في الفكر الإسلامي، ترجمة: رضوان السيد وآخرون، ط1 (بيروت: الشبكة العربية
للأبحاث، 2009م)، ص137.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق