الاثنين، مايو 13، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (14) بايعت الشيخ عبد الله السماوي بعد أول خطبة


مذكرات الشيخ رفاعي طه (14)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

بايعت الشيخ عبد الله السماوي بعد أول خطبة سمعتها له

·        ضابط أمن الدولة في الجامعة يتنكر في صفة طالب وعضو بالجماعة الدينية بالجامعة!
·        كان الشيخ عبد الله السماوي لنا مثلما كان الشيخ حازم أبو إسماعيل لكم!
·        لم يكن للجماعة الدينية نشاط في الجامعة، اللهم إلا صلاة الجماعة!

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

لقراءة الحلقات السابقة:

وأما تعرفي على الجماعات الدينية في الجامعة فقد كان اجتهادا مني، وكان البحث عنهم أمر يغلب عليه الظن لا اليقين، أو كما يسمونه الاجتهاد الغالب، لقد كانت هذه المجموعات الدينية كما يبدو تابعة للجامعة أو لأمن الدولة، أو لا بد أن يكون بعض عناصرهم على الأقل موجودا في هذه المجموعات الدينية لسبب ما، ولست أدري على وجه اليقين الآن ما إن كانت الفكرة الرائجة يومها أن الجماعات الدينية مُشَكَّلة أصلا بيد إدارة الجامعة أو الأمن أم أنها تتشكل لكن لا بد أن تكون مخترقة أو مُوَجَهَّةً بيد هؤلاء؟!

وقد كنتُ ذكرتُ أن هذه المجموعة الدينية كان يغلب عليها النمط الصوفي، وهو اتجاه لا مشكلة عنده في التعامل المباشر المفتوح مع إدارة الجامعة أو أجهزة أمن الدولة، بل إني تعرف على ضابط مهم في أمن الدولة من خلال هذه المجموعات، كان اسمه الحركي: عادل، وقد اكتشفت أنه ضابط فيما بعد، أتذكره جيدا كان يربي مقدمة لحيته (نسميها في مصر: سكسوكة) وكان يأتي إلى الجامعة كأنه طالب في كلية التجارة، وأتذكر نقاشا جرى بيننا بشأن وقف الحرب أو السلام الذي يروج له السادات، وقد كنا ساعتئذ نهاجم هذا السلام ونهاجم السادات أيضا، وكان أصل النقاش قد ابتدأ بينه وبين أحمد كمال، وأحمد كمال هذا زعيم طلابي يساري مشهور وقتها، ومن كان في مثل سني الآن فهو يتذكره قطعا إذ كان واسع الشهرة في ذلك الوقت، وقد احتد الجدل بينهما حتى دخل إلى تبادل الشتائم، ثم ما لبث أن صاح فيه أحمد كمال: من أنت أصلا؟ أخرج لي هويتك؟ أغلب الظن أنك ضابط أمن دولة أو ما شابه..

ولما انتهى الحوار بينهما قلت لأحمد كمال: كلامك غير منطقي، كيف تتهم زميلنا الطالب بأنه ضابط أمن دولة؟! فأشار إلي إشارة من يريد إسكاتي وفي عينيه نظرة رثاء لسذاجتي وقال: اسكت.. اسكت يا حاج! (وكلمة "حاج" في هذا الموقف تعبير عن التدين الساذج).

لكن لم يلبث أن صحَّت فراسة أحمد كمال (أو صحَّت معلوماته) إذ ما هي إلا أسابيع أو أشهر إلا وأُخِذْت مع مجموعة اليساريين إلى أمن الدولة، ولا أتذكر الآن ما السبب الذي لأجله جرى اقتيادنا، لكني أذكر أني وجدت هذا الضابط هناك، وبادرني بالقول: كيف حالك يا رفاعي؟!.. أنت رجل طيب!

فسألته: حيث أنك ضابط أمن دولة فما حكاية عادل هذه؟ فضحك وقال: ها أنت قد عرفت الحكاية! بل ورأيتها رأي العين!!

واكتشفت في تلك الزيارة أنه ذو ثلاثة أوجه، وجه الطالب في كلية التجارة، ووجه عنصر الجماعة الدينية الصوفي الطيب الذي يراقبها ويتابعها ويوجهها، ووجه الطالب المشاكس للتيار اليساري في الجامعة.

اقتصر النشاط مع الجماعة الدينية على مجرد الصلاة جماعة، والتعارف فيما بيننا، لم يكن ثمة نشاط يذكر، فليس ثمة رحلات أو نزهات أو حتى جلسات قرآن أو طلب علم، وكنت بطبعي نافرا من نشاط الرحلات هذا، ولقد قضيت السنوات الخمس في الجامعة فلم أخرج إلا مرة واحدة في رحلة، وإنما غاية ما قد يُسَمَّى نشاطا أن ننظم معرضا للكتاب في الجامعة، نأتي بكتب إسلامية ونبيعها، وما سوى ذلك خمول.

لكن الذي استهواني أولئك الوافدون على الجامعة مثل الشيخ عبد الله السماوي.. ولهذا قصة!

ذات يوم في الإجازة بين السنة الأولى والثانية نَظَّم اتحاد الطلاب في كلية التربية بجامعة أسوان معسكرا طلابيا في الصيف، مثله مثل سائر المعسكرات التي توسعنا فيها فيما بعد، تكون فعالياتها أنشطة تربوية، الصلاة والصيام ودروس يلقيها بعض المشايخ الذين يأتون بهم إلينا، وفي هذا المعسكر تعرفت على طالب معنا في كلية التجارة جامعة أسيوط، اسمه عبد التواب طه أحمد وكان هو من أسوان، واندهشت لأنه معي في الكلية ولست أعرفه ثم اتضح أنه كان يسبقني بسنة.

وفيما نحن في التعارف قلت له: أنا صوفي. فتجهم قليلا وقال: لا، دعك من الصوفيين، إنهم سيئون.

ثم تعرفت في نفس هذا المعسكر على أخويْن آخريْن سيفيدان كثيرا فيما بعد في العمل الإسلامي، الأول: أبو بكر محيي الدين بلال، والثاني: أحمد الزيات، وهذا الأخير هو أخو منتصر الزيات (المحامي الإسلامي المعروف)، والأول نسيبهما، وهكذا ابتدأت علاقة ستتطور بيني وبين هؤلاء الثلاثة من ذلك الوقت.

حين ابتدأت السنة الثانية وعدت إلى أسيوط، بدأت أصلي في مسجد الجمعية الشرعية، ولم أتذكر أو أفكر في أن ألقى عبد التواب، ولكني في هذه الجمعة وجدت على المنبر خطيبا جديدا، طويلا جسيما، أبيض ذا شعر أسود جميل ولحية سوداء جميلة، وثيابه بيضاء جميلة، وكان خطيبا مفوها، أذكر من خطبته تلك قوله: تقولون نأكل عيشنا؟! ألا فلتأكلوا برسيما!

فتعجبت منه، أعجبني أولا شكله ثم خطابته وأسلوبه، وما إن انتهت الصلاة فجلست حتى تحلق حوله بعض الشباب، فذهبت إلى هذه الحلقة فإذا بي أجد فيها عبد التواب طه رفيق المعسكر في أسوان! فسَلَّم علي بحرارة فسألته: هل تعرف هذا الشيخ؟

فقال يتيه عليّ: أعرفه وأعرف كذا وكذا، ثم أخذني من يدي فسلَّمنا عليه وعرفني به، ثم قال: لا بد أن تأتي هنا عصر اليوم، سنكون معا في بيت أخ طبيب يجتمعون في بيته، وسأذهب معهم، وقد كان، وفي هذا المنزل وهذا اللقاء بايعتُ الشيخ عبد الله السماوي!

كان الشيخ في ذلك الوقت شابا نشطا لا يزيد عمره عن الثلاثينات أو حتى في أواخر العشرينات، كان قويا شديدا صلبا، وكان شاعرا متميزا لا يشق له غبار، وكان خطيبا فصيحا مفوها آسرًا، أقوى ما يميزه قوة شخصيته التي تأسر سامعه، فلو أني أردت أن أقربه لك لقلت: كان الشيخ السماوي لنا مثلما كان الشيخ حازم أبو إسماعيل لكم!

كنا منبهرين به، ملتفين حوله، وقد كان دائب الحركة واسع النشاط دائم التجوال على كل جامعات مصر تقريبا، يدعو فيها إلى الله، فما هو إلا أن يرتب له بعض الطلاب حتى يحضر ويحاضر، سواء أكانت الدعوة من اتحاد الطلاب أو الطلاب النشطين، وكانت الجامعة يومذاك في حرية تسمح للطلاب باستقدام واستضافة المشايخ، فما هو إلا أن تُكَوِّن أسرة وباسمها تستقدم الشيخ، ولم تكن ثمة قيود كما صار فيما بعد.

فمن هاهنا صرت واحدا من مجموعة الشيخ عبد الله السماوي، بايعته ثم كنت عضوا فاعلا في هذه المجموعة، ولم يحتج الأمر مني إلا هذه الخطبة الأولى وهذا الزمن بين صلاة الجمعة وصلاة العصر حتى أنتقل من كوني أجهله تماما إلى بذل البيعة له!!

لقد كانت خطبة جليلة مؤثرة، كان يخطب في مسألة الدولة والمقاومة، لماذا الخوف؟ لماذا يقول الناس: نخاف لنأكل العيش؟ ما أشبه هذا بحال البهائم إلا أن البهائم تأكل البرسيم، بل إن هذه المرتبة أحط من مرتبة البهيمة إذ ليس مطلوبا من البهيمة فوق أنها مسخرة للخدمة، أما الإنسان فمؤهل لما هو فوق ذلك ومُكَلَّف بما هو فوق ذلك، وتلا قوله تعالى {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل}، وكيف نخشى الناس ونخشى أعداء الله والله أحق أن نخشاه، وهو الذي يجب أن نتوكل عليه ونعتصم به.. وهكذا!

لمست هذه الخطبة قلبي، قد كانت مثل هذه المعاني قديمة الرقاد في قلبي –كما حكيت سابقا عن مرحلة الثانوية- وأحببت هذا الأسلوب، شعرت به يعبر عما في نفسي، إنني أريد قول هذه المعاني لكن لا أستطيع التعبير عنها في ألفاظ، نعم، لماذا لا يثور الناس؟ لماذا لا يُغَيِّرون ما هم فيه؟ لم الناس هكذا وهكذا... إلخ!

ويمكن أن نمدّ الخط على استقامته، إذا نشدنا التغيير فلا بد من جماعة بل وجماعة قوية، ولكي تكون الجماعة قوية فلا بد لها من بيعة، بيعة كالتي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من الأصحاب ومن الأنصار، ولما كان ميثاق البيعة قويا كان هذا سر قوة هذه الجماعة وسر بسالتها ومقاومتها الظلم والاستعباد، وهكذا دخلنا في المجموعة!

إلا أننا ما لبثنا أن خرجنا منها.. أما لماذا؟ فهذا ما نتركه للحلقة القادمة إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق