لم تكن مشكلة الهجرة والنزوح الإنساني
تمثل مشكلة كبرى قبل عصر الدول القومية، لم تكن ثمة حدود وسياجات فاصلة، ولم تكن
السلطة ترى نفسها مكلفة بحماية الحدود من اللاجئين الداخلين إليها هروبا من أزمة
طبيعية أو من حرب طاحنة، ولم يكن الشعب حينها يستمد تعريفه من الحدود المرسومة
سياسيا بحيث يعتبر أن النازحين يمثلون تهديدا لهذه الهوية أو منافسين على موارد
البلد وفرص العمل فيها. والأهم مما سبق أن السلطة التي تحرص على مدِّ نفوذها
السياسي والحفاظ عليه لم تكن تفكر في اللاجئين كعبء إضافي عليها لأنها لم تكن
بالأساس سلطة هيمنة متغولة ومتدخلة ومشرفة على كل التفاصيل كما هو الحال في الدولة
الحديثة.
إن عملية تقسيم العالم إلى دول قومية
كانت في حقيقتها عملية تحويل العالم إلى مجموعة من السجون الكبرى للشعوب، بحيث
صارت عملية ضبط الشعوب وإدارة شؤونهم مسؤولية لجهاز الإدارة السلطوي الذي واصل
تضخمه والاستزادة من أدواته الكتابية والرقابية لتحقيق السيطرة التامة على الشعوب.
ومن هنا صار الانتقال الإنساني المستمر بطبيعته عبر التاريخ محتاجا بعد هذا التطور
السياسي الجديد إلى عدد من التصاريح والموافقات السلطوية: دولة تسمح بالخروج وأخرى
تسمح بالدخول وربما ثالثة تسمح بالمرور كذلك. أي أن مجرد الهروب من الأزمة صار
رفاهية قد لا يتيسر الحصول عليها!
تقسيم العالم إلى دول قومية هو أحد
منتجات الحضارة الغربية التي استطاعت إلزام العالم بها تدريجيا عبر سلسلة الحروب
التي انتهت بالحرب العالمية الأولى حيث سقطت الإمبراطوريات، ثم أسفرت الحرب
العالمية الثانية عن وضع نظام عالمي يُلزم المجتمعات بإطار وشبكة الدول القومية،
مهما كانت الحقائق والأوضاع الجغرافية والطبيعية والإثنية لا تعبر حقيقةً عن هذه
الصورة؛ بحيث أن أي أمة معاصرة لا تستطيع أن تكون ضمن نظام العالم لو لم تكن دولة
قومية بالمفهوم الغربي للدولة.
وحيث أن العلمانية هي منتج غربي
بالأساس، فإن الأنظمة التي تكونت في الاتحاد السوفيتي والصين هي أحد النتائج
الحضارية الغربية، وإن فارقتها بعد ذلك في الخيار الليبرالي حيث اتجهت إلى
الشيوعية الشمولية، وقد قَدَّمت هذه الأنظمة الشمولية نماذج متوحشة في الحصار الجماعي
والإبادة الجماعية والعقاب الجماعي للشعوب الواقعة تحت سلطتها، بينما كانت
الليبرالية تطرح نموذجا مقابلا في الاستيعاب وحقوق الإنسان وحريته في التنقل، إلا
أنها –مع ذلك- نجحت نجاحا جزئيا ومنقوصا في حل مشكلة اللاجئين والمهاجرين، يعود
ذلك بالأساس إلى المشكلة الأصيلة وهي هيمنة الفكرة العلمانية التي تنتج بطبيعتها سياسةً
وخطابا نفعيا وتوظيفا سياسيا للمبادئ والأخلاق.
ومع مراحل هذا التشكل التاريخي ارتبك
الخطاب الصادر عن الغرب تجاه مسألة الهجرة واللاجئين وتعددت أساليب توظيفه، ذلك أن
واحدة من أهم ثمار الهيمنة العلمانية على الحضارة الغربية هو انتفاء النص المقدس
وبالتالي انتفاء المبدأ المقدس والأخلاق الثابتة، ومن ثَمَّ استُبْدِل بهذا سيادةُ
مبدأ المصلحة الذاتية (اللذة والمنفعة) التي تعتبر هي الحقيقة الصلبة الوحيدة بين
عالم من السيولة في التصورات والمعاني.
من هنا نستطيع أن نرى ارتباكا واضطرابا
واسعا في الخطاب الأساسي الصادر عن الحضارة الغربية تجاه قضية اللاجئين وأزمات
النزوح الإنساني، يمكن أن نبصر منها ثلاثة وجوه أساسية:
1. أزمة ضرورية لا مفرَّ منها
إذا أرادت السياسة ومصالحها المتوحشة
اللا أخلاقية تحطيم أمة ما وتغيير جغرافيتها، فإن الحروب المستعرة يرافقها خطابٌ
تبريري يرى أن عمليات التهجير وتفريغ الشعوب من أراضيها ضرورة لا بد منها لصناعة
السلام وحماية المدنيين وترتيب الوضع السياسي الجديد ورسم "الخرائط
المستقرة" التي تعبر عن شعوب "متجانسة". وبطبيعة الحال فإن الساسة
هم من يحتكرون تفسير هذه الألفاظ وفرض هذه المبررات، لقد كانت هذه الشعوب متجانسة
ومتعايشة بالفعل من قبل أن يولدوا لكن من يستطيع أن يردَّ على السياسي الذي يملك
الأساطيل والطائرات ويملك فرض مصالحه.
لذلك سنرى خطا طويلا يبدأ من اتفاقيات
سيفر ولوزان التي قَنَّنَتْ تفريغ شعوبٍ في البلقان وشرق الأناضول لتكوين دول
قومية على أنقاض الخلافة العثمانية، ويمر هذا الخط بكل مآسي القرن العشرين لينتهي
عند الثورة السورية التي كانت عمليات التفريغ والتهجير فيها تتم برعاية الأمم
المتحدة والباصات الخضراء لتتغير الديمغرافيا السورية، وبدلا من أن تسعى الأمم
المتحدة والقوى الكبرى في فرض إيقاف القتال على بشار الأسد أو فرض مناطق حظر جوي
(كما فعلت في العراق بعد حرب 1990م)، بدلا من أن تسعى الأمم المتحدة والقوى الكبرى
في هذا سعوا في تهجير الشعوب إلى مناطق خفض التصعيد، وهي المناطق التي تتآكل كل
حين لتنتج تهجيرا آخر!
2. المهاجرون
أدوات بناء
في لحظات أخرى
نَظَّر الخطاب الغربي باعتبار المهاجرين مددا مجتمعيا وأدوات إضافية في بناء
الدولة أو في المساهمة في التشكل الحضاري الجديد، وهذه اللحظة تكون عادة في مرحلة
ما بعد الحروب وإعادة بناء الأوطان واستقطاب العقول والكفاءات المهاجرة.
لقد امتصت
الدول الغربية الكفاءات المهاجرة من بلاد العالم كله، وعلى أكتاف هؤلاء أعيد بناء
الدول الغربية التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، كما ساهم أولئك في التفوق
الأمريكي المعاصر، ووضعت لهذه المهمة قوانين نظَّمت احتواء المهاجرين ومنحهم
الحقوق القانونية والجنسيات كذلك. وأعيد توظيف هذه العملية لا باعتبارها سرقة عقول
مهاجرة بفعل سياسات غربية أساسا في البلاد الأصلية لأولئك، بل باعتبارها احتضانا
واحتواء إنسانيا ونموذجا فريدا في تقبل التنوع والاختلاف والتعددية الثقافية
ومثالا متميزا في تحقيق مفهوم المواطنة.
3. المهاجرون
تهديد حضاري خطير!
وفي لحظات
أخرى صدَّرَ هذا الخطاب المهاجرين باعتبارهم تهديدا حضاريا ووجوديا، وخطرا على
هوية أوروبا وأمريكا، وهو الخطاب الذي أنتج ذروته في نظريات العداء للمهاجرين التي
تتبناها الأحزاب اليمينية والتي أسفرت عن أحداث متعددة أبرزها العملية الأخيرة
التي وقعت في نيوزيلاندا، وقد أظهرت موجة الانتخابات الأخيرة في أوروبا واستطلاعات
الرأي في أمريكا تزايدا لمعدلات الإسلاموفوبيا بل وتزايدا لـ "معاداة
الإسلام"، حتى إن بعض العبارات التي كان يُحاسب عليها قانونا بتهمة العنصرية
قبل سنوات معدودة، تُقال الآن في خطابات رسمية وتحت قبة البرلمانات.
وفي عدد من
المؤتمرات والندوات التي جرت في الأشهر الثلاثة الماضية أتيح لي اللقاء بعدد من
المسلمين في أمريكا، وهم من الجيل الثاني والثالث، والذين لا يجيدون العربية أصلا،
وتوافقت آراؤهم على أن أمريكا الآن في أجواء أشد سوءا من أجواء الحادي عشر من
سبتمبر، وأن أبناءهم (الجيل الرابع) يشعرون أنه يجب عليهم أن يختاروا حتما بين
الإسلام وبين أمريكا.
هذه الأوجه
الثلاثة من الخطابات التي تصدرها البيئة السياسية والأكاديمية والإعلامية الغربية
تجاه قضية واحدة هي قضية المهاجرين، لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء التوظيف السياسي،
وهو توظيف سياسي نفعي برجماتي لأنه علماني أساسا، لا يستند إلى نص مقدس أو أخلاق
ثابتة، إن مفهوم القداسة نفسه هو ضد مفهوم العلمانية، ومفهوم الأخلاق لا معنى له
إذا لم تكن الحياة إلا ظاهرة مادية.
يحتاج الأمر
مقالا آخر لفهم مسألة اللاجئين والنزوح الإنساني في تجربة الحضارة الإسلامية، لكن
لكي تكتمل الصورة فنحاول إيجاز القول إلى أن يأذن الله بتفصيل هذا الموضوع.
منذ الإخاء
بين المهاجرين والأنصار في المدينة كانت تجربة الحضارة الإسلامية في التعامل مع
المهاجرين متميزة، وذلك لأن الأساس الذي استندت عليه هذه التجربة هو أساس ديني
يكتسب القداسة من خلال النصوص الدينية المقدسة لدى معتنقيه، مما يُضَيِّق كثيرا
جدا إمكانية التوظيف السياسي ضد المهاجرين والنازحين، ويُثَبِّت قضيتهم باعتبارها
قضية إنسانية أخلاقية سابقة على أي اعتبار آخر (انظر هنا
لمزيد بيان لهذه النقطة).
كذلك فإن
التجربة الإسلامية الحضارية في تنظيمها الاجتماعي أنتجت توازنا بين السلطة
والمجتمع، بحيث لم تعد السلطة مسؤولة وحدها عن إدارة الأزمات وتقع عليها حصرا
أعباء استيعاب المهاجرين، بل إن النشاط الاجتماعي الوافر ومؤسسات المجتمع
التقليدية الفعالة بطبيعتها تسارع إلى تحمل هذه المسؤولية بدوافع دينية أخلاقية
مبدئية، وهذا أيضا يُضَيِّق إمكانية التوظيف السياسي لورقة المهاجرين باعتبارها
أداة للضغط والمساومات.
لهذا فقد كانت التجربة الحضارية
الإسلامية -منذ الإخاء الأول بين المهاجرين والأنصار مرورا بأزمات النزوح من
الأندلس والبلقان والهند والاتحاد السوفيتي وانتهاء بالنازحين السوريين والروهينجا
وغيرهم- متميزة في القدرة على استيعاب المهاجرين والإحسان إليهم وسرعة اندماجهم في
المجتمعات البديلة، وربما نستطيع القول بأن أية صعوبات معاصرة في هذا الملف فإنما
هي حصرا مسؤولية التنظيم الدولتي السلطوي الذي يتعلق بأداء السلطة لا بأداء
المجتمعات.
بل إن التجربة الإسلامية شهدت العديد
من حالات استيعاب غير المسلمين النازحين، بل والمحاربين، وتحتفظ وثائق الحروب
الصليبية بنماذج متميزة لأوروبيين قدموا محاربين وفشلت الإمارات الصليبية في
استيعابهم فلم ينقذهم من المجاعة والمرض إلا المجتمعات المسلمة مما أدى بكثير منهم
إلى الدخول في الإسلام، وهو ما سجلَّته نداءات الآباء في الشرق "لقد أعطوهم الخبز
وسلبوهم دينهم".
ولعل هذا
الموضوع يكون حديثا مستقلا فيما بعد إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق