استعرضنا في
المقال الماضي كيف أن الأوقاف العثمانية في البلاد العربية (والتي اتخذنا مصر
كمثال لها) هي أبرز الأدلة على أن الحكم العثماني لم يكن احتلالا أجنبيا كما تريد
بعض القطاعات أن تُرَوِّج في هذه الأيام، وضربنا المثل على ذلك بالأوقاف التي
أنشأها الولاة في نصف القرن الأول من الحكم العثماني، وفي هذه السطور نحاول فهم
خريطة الأوقاف التي أنشأها أولئك الولاة.
كانت أوقاف
الولاة العثمانيين ضمن الأوقاف التي تشرف عليها السلطة، إذ "كانت تخضع
حساباتها لإشراف من القضاة أو من ديوان محاسبة الأوقاف الكبرى، كما كان الغالب أن
ينصب الناظر على هذه الأوقاف بتذكرة ديوانية من الديوان"[1]،
ولكونها كانت كبيرة في الغالب فإنها كانت متعددة الوظائف والأغراض والمصادر، كما
كان فيها العديد من الموظفين واحتاجت إلى تدقيق قانوني أوسع حتى إن وقف سليمان
باشا كان يسجل سائر معاملاته في المحكمة ليكون له أرشيف قضائي، وهو ما سيأتي معنا
طرف منه فيما بعد.
وبالنظر في
تواريخ الأوقاف وطبيعتها تتبدى لنا بعض الملامح العامة التي تكشف عن طبيعتها
ودوافعها، من أبرزها:
1. يبدو بأدنى
نظر أن أوقاف الولاة كانت ظاهرة عامة، ذلك "أن معظم ولاة مصر قد شيدوا لهم
أوقافا، وسواء كان ذلك من أجل زيادة الهيبة الاجتماعية أو لتخليد الذكرى أو لنفع
اقتصادي، فالمُلاحَظ عظم أوقاف الولاة بصفة عامة، حتى أن بعض أوقاف الولاة كوقف
خاير بك كان أكبر من أوقاف بعض السلاطين، وكذلك التنوع في موقوفات الولاة وتوزعها
بين الحضر والريف باستثناء وقف سليمان باشا، وبين الوجه القبلي والبحري، للحفاظ
على سيولة واستمرارية عائد الوقف"[2].
2. تقل الأوقاف
التي أنشأها الولاة في زمن الاضطراب الذي وقع بعد وفاة خاير بك، ثم في آخر عهد
السلطان سليمان القانوني، بينما تكثر وتزدهر بقوة ووضوح في عموم عهد السلطان
سليمان، ويتضح هذا في الوصف المتكرر للوالي بأنه كان محبا للعمارة أو كان محبا
للخير ومن أهل الصلاح، ونحو هذا من الأوصاف كما مرَّ آنفا.
وهنا يبدو واضحا
العلاقة القائمة بين الأحوال السياسية وأحوال الأوقاف التي تشرف عليها وتنشئها
السلطة، وتتميز الفترة التي نبحثها في هذه الورقة باستقرار الوضع السياسي وقوته،
وهو ما انعكس على قوة الأوقاف واتساعها، حتى أطلق عليها البعض "الفترة
الذهبية لهؤلاء الولاة" حيث لم تكن "تنقصهم القوة أو السيطرة على مجريات
الأمور"[3].
ونجد هذه فرصة
لتوضيح إشكالية جاءت في وصف لعلي مبارك عن الأوقاف العثمانية، فقد قال عن الولاة
العثمانيين: "اهتم بعضهم في عمارة بعض الجوامع وبنى بعضهم وكائل في القاهرة
وبولاق وبنى داود باشا مدرسة في سويقة اللاله سنة خمس وخمسين وتسعمائة وبنى إسكندر
باشا جامعا وأنشأ عمارة عظيمة في باب الخرق (باب الخلْق)... وأوقف كل منهم أوقافا
دارَّة على عمارته لأجل بقائها عامرة، لكن كان من عادتهم أن كل من أراد وقف شيء
أخذ من وقف غيره ووقفه باسمه أو نهب ما بأيدي الناس ووقفه، فلذلك لم تستمر بعدهم
بل أخذت تلك الأوقاف في التقهقر والخراب حتى صارت بعضا من كل وقلّ إيرادها فاختل
لذلك بعض تلك العمائر"[4].
في هذه الفقرة
إجمالٌ يُفضي إلى توهم بأن الولاة المذكورين هنا كانوا من أولئك الذين استولوا على
أوقاف سابقيهم ونهبوا ما كان بأيدي الناس، والواقع أن هذا فهم خاطئ جاء من
الاختصار، ذلك أن البحث في التفاصيل يؤدي إلى أن ذلك إنما كان في فترة ضعف السلطة
العثمانية، وهي فترة تالية للفترة التي نتناولها في بحثنا هذا، فبالتنقيب في مصادر
أوقاف الولاة العثمانيين الذين نتعرض لهم هنا اتضح الآتي: "جزء كبير من
الموقوفات قد آل إلى الولاة نتيجة الشراء من أطراف أخرى مما يوضح مدى ثراء هؤلاء
الولاة حتى قبل مجيئهم إلى مصر، ولكن جزءا لا يستهان به من أوقاف الولاة ولا سيما
الأطيان الزراعية قد آل إليهم بطرق أخرى مثل حق الوالي في الرصد من بيت المال على
جهة ما، بصفته نائب الإمام، وتوسع بعض الولاة في هذا الحق مثل خاير بك الذي بلغت
مساحة إحدى الرزق التي رصدها من ضمن ما رصد 400 فدان قطعة واحدة"[5]،
واستعرض المؤلف المصادر الأخرى فكانت للولاة في فترة الضعف والتراجع[6].
3. حصلت العمارة
الدينية على معظم الأغراض التي أوقف الولاة لأجلها أوقافهم، فهي بين المساجد
والزوايا والتكايا والقباب للأولياء الصوفية، وهذا مفهوم من ولاة يُحاولون التقرب
إلى الرعية وإحراز الذكر الحسن بعد وفاتهم، ومن أبلغ ما يُقال في هذا ما ذكره ابن
أبي السرور البكري عن خاير بك حيث قال: "ومُحَصِّله مساويه أكثر من محاسنه،
وليس له من المحاسن غير وقفه المعلوم بباب الوزير ووقفه على المحيا بالجامع
الأزهر"[7].
وينبغي أن نذكر
أن ذلك العصر كان من عصور ازدهار التصوف وكثرة الطرق والأولياء المتصوفين، وقد شاع
في كتب التراجم والطبقات لتلك الفترة الحديث عن الكرامات والخوارق التي تحدث
للأولياء، وذكرت بعض تلك المصادر المكانة التي حازها بعض الأولياء عند العامة وعند
رجال الدولة[8] حتى
ذُكِر أن إقبال الجند على الشيخ إبراهيم الكلشني دفع بالسلطة إلى نفيه لخوفها من
التفاف الجنود حوله ثم أعيد بعد فترة مع حظر استقباله للعسكر[9]،
وتبدو الرواية من المبالغات المعتادة في كتب الصوفية إلا أنها تعطي أساسا حول ما
بلغه بعض أولئك الأولياء من المكانة، وهو ما أفضى إلى وقف الولاة أوقافا على
قبابهم وزواياهم زيادة في التقرب من مجتمع العلماء ومن العامة.
4. كذلك فقد
انتشر في أوقاف الولاة أن يوقف الوالي على نفسه طيلة حياته ثم بعد وفاته لجهات
خيرية أو بصفة غالبة على ذريته، ويشترط في الوقف أنه إذا انقرضت ذريته أن يؤول ريع
الوقف إلى عتقائه ثم عتقاء ذريته، أو يشترط اشتراك ذريته مع جهات خير في ريع الوقف[10].
وهو الأمر الذي يتبين فيه دوافع الحماية من تقلبات السياسة والعزل والإقصاء كما هو
مضطرد في أحوال الواقفين من عصر الأيوبيين والمماليك.
5. ومن أهم ما
ينبغي إيراده هنا أن بعض الموارد التي أوقفت على المنشآت في مصر كانت في الحجاز أو
اسطنبول، كما في أوقاف خاير بك وسليمان باشا. أي أن مصر كانت تستفيد من أملاك
أولئك الولاة التي هي خارجها، وهذا بحد ذاته أهم ما يَرُدُّ على فكرة الاحتلال
العثماني وأنه أراد استصفاء مصر لحساب المركز في الآستانة، كما يرد على مسألة
الشعور القومي في العصر العثماني[11].
ولئن شاء الله وقدَّر، فسنرى في مقال
قادم كيف كانت آثار هذه الأوقاف على أحوال القاهرة وكيف أثرت في توسعها العمراني
وفي تقوية نسيجها الاجتماعي وغير ذلك من آثار حميدة افتقدناها مع عصر دول التفرق
والتمزق المعاصرة.
[1] محمد عفيفي، الأوقاف
والحياة الاقتصادية في مصر في العصر العثماني، (القاهرة: الهيئة المصرية
العامة للكتاب، 1991م)، ص84.
[3] حمزة عبد العزيز بدر، أنماط
المدفن والضريح في القاهرة العثمانية (1517 – 1805م)، رسالة دكتوراة في قسم الآثار
الإسلامية بكلية الآداب جامعة سوهاج، 1989م، ص23.
[7] ابن أبي السرور البكري، الكواكب
السايرة في تاريخ مصر القاهرة، مخطوط بمكتبة الإسكندرية، رقم 1 0045، (alkwakeb alsa2era) لوحة 41. (رابط المخوطة)
[11] محمد عفيفي، الأوقاف
والحياة الاقتصادية في مصر العثمانية، ص132.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق