كان عالم النفس الاجتماعي ستانلي
مليجرام من أتباع مدرسة عالم النفس سولومون آش، تفسر هذه المدرسة السلوك الإنساني
من خلال تأثره بالضغط الاجتماعي الواقع عليه، بمعنى أن البيئة والحالة والموقف
المسيطر على الإنسان أشد تأثيرا على سلوكه من دوافعه ونزوعه وقيمه الداخلية.
وضع سولومون آش تجربة بسيطة، خلاصتها
أن يتواطأ هو ومجموعة من الممثلين على الإنسان المراد إجراء التجربة عليه، كأنهم
جميعا في اختبار تعليمي، وتعرض على الجميع أسئلة إجابتها الصحيحة واضحة وبديهية،
لكن سيتواطأ الجميع على تقديم الإجابة الخاطئة، وأسفرت التجربة عن أن الإنسان
يستجيب للمجموع المحيط به، ويختار بدون أي إكراه مباشر الإجابة الخاطئة انسياقا
وراء المجموع، مع أن هذا السؤال إذا طُرِح عليه منفردا فلن يتردد في تقديم الإجابة
الصحيحة. ثلاثة أرباع الحالات التي أجريت عليها التجربة فعلوا هذا!
طوَّر ستانلي مليجرام هذا النموذج
فأضاف إليه معنى "السلطة"، وإن كان بشكل مخفف للغاية، حيث صَمَّم نموذجا
يعتقد فيه الإنسان محل البحث أنه يُجرِّب تجربة لأثر العقاب على تحسن التعليم، فيُعطى
صلاحية أن يُعاقب شخصا مُسِنًّا بالصعق الكهربائي لتنشيط ذاكرته، كان هذا الشخص
المُسِنّ جزءا من التجربة، عليه أن يُمَثِّل الألم، ويفصل بين المعاقِب والمتعلم
عازل زجاجي. وإلى جوار الشخص الذي يقوم بالمعاقبة رجل يرتدي ثوب الطبيب يعمل
كمستشار، يؤكد له دائما أن يستمر في الصعق بشحنة كهربية أعلى ولا يخشى شيئا!
قبل التجربة استطاع مليجرام آراء خبراء
ومختصين بالطب النفسي: كم من الحالات قد تصل إلى درجة الصعق العظمى (القاتلة)؟
وكانت تقديراتهم أنها لا تزيد عن 2%، لما أجريت التجربة وصل 65% من الحالات إلى
درجة الصعق العظمى. وكان الاستنتاج المباشر من التجربة قويا في أن أثر السلطة على
الطاعة أكبر مما نتصور، إذ خالف أغلب الناس طبائعهم وقناعاتهم وقيمهم، وخرجوا عن
سويتهم النفسية، لمجرد أن رجلا يرتدي زي الطبيب يؤكد لهم أنه لا ضرر على
المُعاقَب. فإذا كان هذا وهو في موقع المستشار قد استطاع فعل ذلك، فكيف يمكن أن
يفعل رجل يمتلك سلطة حقيقية ويملك الثواب والعقاب المادي إذا أصدر الأوامر؟!
كرر مليجرام تجربته بأشكال مختلفة،
فوجد أن نسبة الطاعة للأوامر المخالفة للأخلاق تزيد حين تكون المسافة واسعة بين
المُعاقِب وبين من يعاقبه، وكلما اقتربا من بعضهما كلما توقف العقاب عند مرحلة
مبكرة. وجد كذلك أن العقاب إذا كان باليد (تحدث الملامسة) يوقف الطاعة مبكرا عما
إذا كان العقاب باستخدام جهاز من بعيد أو أداة من قريب. مما يدل على أن عامل القرب
الإنساني ورؤية الوجه والملامح وحصول المعايشة يُعَطِّل الاستمرار في تعذيب
الضحية.
هذه الملاحظة الأخيرة مع ملاحظات من
تجارب أخرى تسوق إلى أن الذي يقصف بالطائرات أو الصواريخ أقل تألما من الذي يمارس
القتل قنصا، والذي يمارس القتل قنصا أقل تألما وشعورا بالذنب ممن يمارسه بالسكين..
وهكذا!
وهي ملاحظة تفيد أيضا في أن تقسيم
الوظائف يجعل عملية القتل والتعذيب أكثر كفاءة وأقل ألما، فالقاضي الذي يكتب حكم
الإعدام ثم لا يباشر الإعدام أكثر اجتراءا على هذا منه لو أنه نفسه سيكتب حكم
الإعدام وينفذه، والجندي الذي سينقل المحكوم عليه إلى السجن وهو لا يفهم ولا يعرف
ما إن كان سيُحكم عليه بالإعدام أم بالسجن، وحتى لو عرف أنه يأخذه إلى الإعدام فهو
لا يعرف لماذا قد حُكِم عليه بالإعدام هو أقل ألما منه لو أنه عرف وفهم وكانت عنده
الفرصة ليقول رأيه، وكذلك الجندي الذي سينفذ الإعدام من الأفضل (لكي يقوم بوظيفته
بلا ألم) أن ينفذ دون أن يعرف، ولو أنه أتيح له أن يختار العقوبة فالأغلب أنه لن
يفعل. وتم إثبات هذه الأمور من خلال تجارب أخرى في مواقف متعددة.
وهناك تجارب أخرى تزيد من وضع
التفسيرات التي تجعل أناسا عاديين يقومون بارتكاب الجرائم التي لا يرتكبونها عادة،
يمكن الاستزادة منها في كتب علم النفس السياسي خاصة أو علم النفس الاجتماعي عامة، من
أبرزها ما نشره فيليب زمباورد في كتابه الشهير "تأثير الشيطان: كيف يتحول الأسوياء
إلى الشر" الذي حاول فيه تفسير ما حدث في سجن أبو غريب العراقي، وكان من بين
أهم تفسيراته أن نزع صفة الإنسانية عن الضحية وتحويله إلى رقم أو إلى حشرة أو إلى
حيوان يُسَهِّل ارتكاب الجريمة ضده ويزيل شعور الألم، كما أن ثمة علاقة جديدة تنشأ
بين الذين أصبحوا فجأة في موقع السلطة مثلما تنشأ علاقة جديدة بين من أصبحوا في
موقع المقهور، وتختفي العلاقات السابقة بسرعة شديدة، ثم ما يلبث أن يتصرف الأولون
بسادية وعنف ضد الآخرين.
هذه التجارب تنطلق في العادة من سؤال
يحاول فهم حوادث القتل الجماعي والتعذيب والاغتصاب، أي أن هذا الميدان يكاد يكون
حكرا على ممارسات الجيوش والأجهزة الأمنية، ذلك أنه يصدر من عناصر هذه الأجهزة ما
لم يكن مُتَصَوَّرًا ولا مُتَخَيَّلاً رغم أن عناصر هذه الأجهزة ليست بالضرورة من
غير الأسوياء نفسيا، وهو ما يستدعي فهما وتفسيرا لهذا التحول.
لكن الأزمة هنا أن المجهود العلمي
المبذول في فهم هذه الأمور لا يصل بالضرورة إلى الهدف النبيل المرفوع كشعار: ماذا
يجب أن نفعل لكي لا يتكرر هذا الإجرام. بل على العكس يستخدم السياسيون هذه النتائج
العلمية لتحقيق مزيد من السيطرة والتحكم والهيمنة على عناصر هذه الأجهزة الأمنية
والعسكرية، بحيث تقوم بالهدف الذي يريده السياسي بأفضل نتائج ممكنة، ومن أَشْهَرِ
ما قيل في هذا كلمة كيسنجر: "العسكر ما هم إلا حيوانات غبية يحركها الساسة
كقطع الشطرنج"!! ذلك أن العلم وحده لا يكفي، لا بد من أخلاق تحدد مساره ليصب
في نفع الإنسانية، ولكن كيف للعلمانية أن ترعى الأخلاق وهي بنت المادية [وهذا مما يميز الجندية الإسلامية كما رصدها مؤرخون غير مسلمين].
ولئن كان العالم يعيش عصر العلمانية،
ويجني بعضا من ثمراتها المرة بجيوش وأجهزة أمن لا تعرف الأخلاق ولا تُوَظَّف
المعارف العلمية إلا بما يزيدها توحشا (أو كفاءة! فحيث لا أخلاق لا يبقى فرق بين
التوحش والكفاءة)، فإن مشكلتنا في عالمنا الإسلامي المقهور أكبر من هذا وأشد!
المشكلة التي تخصنا نحن أن هذه التجارب
تُطَبَّق في بلادنا ضِدَّنا كشعوب محكومة بنظم أمنية عسكرية شمولية، يتوغل فيها
النمط الأمني العسكري حتى يشمل كل شيء، ويتحكم في كل شيء.
فإذا كان الأسوياء يمكن أن يتحولوا إلى
عناصر عريقة في الشر فكيف إذا كان الانتقاء في بلادنا يقوم في جانب منه على اختيار
غير الأسوياء أصلا؟!
ثم إذا كان المرء تحت ضغط السلطة
المخففة يرتكب ما يخالفه قيمه، فكيف يمكن أن يفعل إذا كانت برامج التربية والتدريب
مُصَمَّمَةً بالأساس على نزع الدافع الأخلاقي وغرس الدافع الإخضاعي السلطوي
التراتبي الذي يجعل طاعة الأوامر مقدسة وفوق كل مبدأ؟!
ثم إذا كان المرء يسهل عليه ارتكاب
القتل لمن يبتعد عنهم ولا يراهم بشرا، فكيف إذا كانت عناصر الجيوش وأجهزة الأمن
تتحول فعليا إلى طبقة متمايزة عن الجمهور، في الملابس والمساكن والنوادي
والمنتجعات والمستشفيات وحتى قاعات الأفراح والمساجد؟!
بالإمكان ضرب الكثير من الأمثلة، لكن
السؤال الأخطر والأهم هو: إذا كان المرء يطيع السلطة التي تقهره، حتى يخرج عن
طبائعه خضوعا لها، فهل تبقى الجيوش وأجهزة الأمن وطنية خادمة للشعب ونحن نعرف
جميعا أن سيدها الحاكم لها والقاهر عليها والمُنَظِّم لعقائدها وبرامج تسليحها
وتدريبها هم الأمريكان والإنجليز والفرنسيس؟!
معاك حق
ردحذفكلهم خدم للمحتل الكافر
لا إله إلا الله محمد رسول الله
ردحذف