الثلاثاء، أبريل 16، 2019

مذكرات الشيخ رفاعي طه (13) قصتي مع اليسار في الجامعة


مذكرات الشيخ رفاعي طه (13)

من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

قصتي مع اليسار في الجامعة

·        ذهبت لصديق يحضر الجن كي أقنع صديقي الملحد بعالم الغيب
·        كنت أعدّ مجلة حائط وحدي، ومن هنا استقطبني اليساريون
·        صديقي اليساري كان ينكر وجود الله ويأمل في دخول الجنة!!

سجلها عنه وحررها: محمد إلهامي

كان العمل العام عندي طبعا وجبلة، لم يعلمني إياه أحد ولم آخذه عن أحد سبقني، منذ نعومة أظافري وجدتني توّاقًا لخوض هذا الغمار العام، وهكذا كان حالي في المدرسة الابتدائسة والمدرسة الإعدادية والمدرسة الثانوية، لدي الجرأة لأبادر وأقول وجهة نظري، ولهذا لم يكن الاهتمام بالشأن العام أمرا غريبا علي في مرحلة الجامعة، لكنني كنت أبحث عن الباب، وعن الأصحاب، لقد كنت أبحث عمن أعمل معه، إلا أني لم أجد!

كانت الجامعة يومئذ تكاد تكون خالصة لليساريين، هم أصحاب النشاط والصوت العالي، وهم أصحاب العمل العام، فلم أجد مجالا للعمل مع آخرين، وبينما لا زلتُ جديدا في الجامعة ولم أتعرف جيدا على الوسط المحيط، قررتُ أن أنفذ مجلة حائط وحدي! لا أتذكر الآن ماذا كان اسمها لكن الذي يهمّ هو أنها كانت خارج سياق النشاط العام في الجامعة، ولم يساعدني فيها إلا بعض الشباب أو الزملاء العاديين ممن ليس لهم اتجاه سياسي، ولقد كنتُ حريصا أن تكون هذه المجلة شهرية وأحيانا نصف شهرية. كنتُ خطاطا جميل الخط، كما كنت ذا قراءة ونظر فكنت صاحب المجلة مادة وتصميما، وربما جمعت لها المقالات وربما شاركني شابٌ في عدد منها.

من هاهنا لفتُّ أنظار الذين كانوا يُعَلِّقون مجلات الحائط، أنا أُعَلِّق مجلتي الوحيدة وهم يعلقون أربعا أو خمسا، ومعهم من يتولى شرح ما في مجلاتهم وترويج فكرها بين الطلاب القارئين، وأنا وحدي لسان مجلتي وشارحها، ومن هاهنا كانت بداية التعارف!

-      من أنت؟
-      رفاعي طه

وبعد التعارف سألني:
-      لماذا لا تعمل معنا؟
-      من أنتم؟
-      نحن طلاب، ونحن معارضون للنظام.

ثم أخذ يتحدث عن توجهاته، أنا أسأل وهو يجيب، ثم قال:
-      يمكنك أن تعمل معنا بدلا من عملك منفردا، ويمكن لك أن تكتب في مجلاتنا
-      موافق.

كانت مجلتي ذات نفس سياسي ولكنها ليست متخصصة في السياسة، ولا كان لها ذات السقف العالي المعارض المعروف لليساريين، كانت متنفسي ونشاطي، فكنت أكتب فيها ما يعنّ لي في السياسة أو في غيرها، أعبر فيها عن نفسي ورأيي أولا وأخيرا، كما يتضح فيها النفس الديني الواضح، لتديني الشخصي، ولما تكوَّن لدي في فترات حياتي السابقة.

عرفت فيما بعد أن محدثي هذا لم يكن يساريا فحسب، بل كان شيوعيا أيضا! وعرفت أن هذه المجموعة التي كان يحدثني عنها هي التي نعرفها باسم "مجموعة العمال المصريين" وهم مجموعة شيوعية، تابعة لحزب "العمال المصريين الشيوعي"، فسألته:

-      أنتم طلاب، فلماذا تسمون أنفسكم بالعمال؟
-      نحن امتداد لحزب العمال المصريين
-      وما هي أنشطتكم؟
-      هذا الذي تراه، البلد كما ترى ينتشر فيها الظلم والاستبداد ونحن ضد الظلم والاستبداد، وهؤلاء كما ترى تقاسموا البلد وقَسَّموا الأمة وأفقروا الشعب، وهذا الظلم الاجتماعي الذي لا بد أن نستبدل به العدالة الاجتماعية.
-      هذا شيء حسن، ولا خلاف عليه، ولا يسعني إلا أن أشارككم فيه.

في هذا الوقت لم أكن أستعمل لفظ "العدالة الاجتماعية"، ربما تكلمنا عن تقاسم الثروة وتوزيع الثروة ونحو ذلك، وأن الناس سواسية، وأن الله عز وجل خلقهم كأسنان المشط، ونحو هذا من المقولات، وكان هذا القدر المتفق عليه بيننا هو القدر الذي نتعاون فيه.

مع مرور الأيام بدأت أنتبه إلى أن هؤلاء الشباب ليسوا متدينين، وفي ذلك الوقت كانت الجامعات المصرية تشهد قدرا هائلا من الانحلال الأخلاقي، كانت مصر كلها لا تزال في سطوة الأفكار الشيوعية واليسارية التي هي ضد الدين أساسا، ولعل تسعين بالمائة من شباب ذلك الوقت لم يكن متدينا أصلا، وينتشر بينهم الزنا والمخدرات، والحمد لله الذي عصمني وكرَّه إلي هذه الأشياء، فلم أقترف بحمد الله شيئا من هذا.

كان الزنا في ذلك الوقت أسهل منه الآن في الجامعات، بل ولم يكن عيبا لدى العديد من الشرائح، وكانت العلاقة بين الفتاة وزميلها في الحزب تشهد من التبسط والانفتاح ما يجعل ممارستهما الزنا أمرا طبيعيا باعتبارهما زملاء في الحزب أو في الفكرة، ولا بأس أن يسافر معها وتسافر معه، ولقد كان اغتراب البنات في دراستهن الجامعية مما يتيح لهن حرية واسعة وكنَّ يستغللن ذلك أسوأ استغلال أحيانا! فذلك الأب الذي أرسل ابنته للجامعة لا يتاح له شيء من الرقابة عليها.

ومهما قيل في الرقابة التي تفرضها إدارة المدن الجامعية إلا أنها في النهاية يمكن التنصل منها والالتفاف عليها، فهذه التي ستسافر –مثلا- في رحلة جامعية، لن تملك إدارة المدينة لها شيئا وليس بيدها أن تمنعها، أو حتى يمكن للفتاة أن تقول بأنها عائدة لبيتها فيما هي تنوي شيئا آخر، غاية ما في شأن الرقابة بمساكن المدينة الجامعية هو ضبط وقت الدخول مساءا، لكن أين كانت الفتاة طوال النهار؟ فهذا ما لا يتدخل فيه أحد.

كان الشباب في تلك الفترة على هذا النحو من الانحلال الذي رسَّخت له دولة عبد الناصر: ثقافتها وإعلامها وأفلامها ونخبتها الاجتماعية، لكن الشاهد هنا أن هؤلاء الشباب لم يكونوا متدينين لا بمعنى أنهم غير ملتزمين بالدين كسائر الشباب، لقد اكتشفت أن انحلالهم هذا هو علامة على الكفر! إنهم ليسوا شبابا تغلبه شهوته أو يساير التيار مع علمه بأن هذا حرامٌ دينيا أو لا يصح أخلاقيا أو لا يُقبل اجتماعيا.. لا! هؤلاء في هذا الحزب كانوا غير متدينين بمعنى أنهم لا يؤمنون بالدين أصلا!!

عرفت هذا يوم دخلت نقاشا مع أحدهم، كان اسمه سعيد، فقال لي: ليس الخلاف بيننا كبيرا يا رفاعي، أنت عندنا ممن نسميهم "المثاليين"، ثمة مثاليون وغير مثاليين (كان يُطلق على غير المثاليين اسما آخر ذهب عني الآن)، ومن ثَمَّ فليست لدينا مشكلة معك.

تطرق الحوار بيننا حتى وصلنا لقضية الإله: هل هو موجود أو غير موجود؟ فقلت له: هذه قضية لا يمكن أن أتشكك فيها، فقال: إنما ذلك لأنك لا زلت محصورا في اعتقاد قديم مسيطرٍ عليك، وهو اعتقاد لا تملك عليه دليلا، ما الذي يجعلك ترى الإله حقيقة؟!

قلت: بالعكس، كيف تثبت أنت أن الإله غير موجود؟ فإن كل ما حولنا يثبت وجوده، مجرد وجودنا هنا وكلامنا الآن معا دليل على وجوده، إننا ننطق ونتكلم ونرى، وغدا سنموت.. ما معنى هذا كله؟ معناه البسيط المباشر أن ثمة قوة أكبر منا موجودة وقائمة هي التي مَكَّنَتْنا من النطق والرؤية وهي التي تميتنا.. أنت، ماذا تسمي هذه القوة الكبرى؟ هيا.. ضع لها اسما!

قال: إنها الطبيعة، تنتج كل هذا و... و... إلخ هذا الحديث الذي كانوا يحفظونه ويُحَفِّظونه لأنفسهم.

قلت: الطبيعة لا يمكن أن تخلق كائنات حية بهذه الكثافة الموجودة في كل مكان. لكني دعني أُسَلِّم لك أنه لا إله، ولا آخرة، ولا جنة ولا نار ولا شيء على الإطلاق.. هب أننا متنا الآن أنا وأنت ثم صحونا يوم القيامة فاكتشفنا أنها قيامة وأن ثمة جنة وثمة نار، ماذا ستفعل حينئذ؟!

قال: لن أفعل شيئا، ولم قد يُدخلني النار؟ ألست تقول بأن ربنا عادل؟ لئن كان عادلا فسيدخلني الجنة!

أجبته مندهشا: حقا؟!!!

ربما لن يصدق القارئ مثل هذا الحوار، إلا أنه كان يجري فعلا على هذه الطريقة، كان يظن أنه يستحق الجنة طالما أنه لم يفعل شيئا يؤذي البشرية! يقول: منذ أن عرفت نفسي لم أؤذِ البشرية، وعليه فيجب أن يدخلني الجنة.

قلت له: كيف هذا؟! إنني الآن لو سببتك مرتين أو ثلاثة فسيثير هذا غضبك وربما لم تتحمل فعاجلتني بالضرب والعراك، فما بالك وأنت تشتم الذات الإلهية، تقول: ليس إلها، وليس موجودا، وليس يدبر الكون.. كيف تريد بعد هذا ألا يدخلك النار؟! هل بعد هذه النار من عدل؟! لئن كنتَ تقول بأن الله عادل فأبسط مقتضيات العدل أنه يُدخل الصالح الجنة ويُدخل الطالح النار، أما إن كان الصالح والطالح يدخلان الجنة أو يدخلان النار فليس من عدل هنا على الإطلاق! هذا أمر ضد العدل نفسه!

انتهى هذا الحوار عند هذه النقطة.

كانت حواراتنا تسير على هذا النمط الذي نجتهد فيه في هذه المرحلة المبكرة، لكن أبرز مظاهر الخلاف كانت تتجلى في المسائل الأخلاقية. وبقيت معهم هذه السنة الأولى ثم الثانية من كلية التجارة.

مما أتذكره أيضا حوارا آخر مع أحدهم، واسمه جمعة، وكنا نتكلم ذات يوم عن الجن والملائكة والغيبيات والسحر، ونحو هذه الأمور، ولم يكن هو مؤمنا بأيٍّ من هذه الغيبيات، قلت له:

-      ألست لا تؤمن بهذه الأشياء: السحر والجن والملائكة لأنها غيبيات؟
-      بلى
-      فهل إذا ثبت لك شيء منها، هل تؤمن بالبقية؟!
-      نعم!
-      حسنا، لن أستطيع أن أثبت لك الجن والملائكة، لكني أستطيع أن أثبت لك وجود السحر، ولي عليك أنه إذا ثبت هذا أن تؤمن بالجن والملائكة وعالم الغيب.. اتفقنا؟
-      اتفقنا.

تركته ومضيت إلى رجل أعرفه كان يتعامل مع الجن، وذكرت له أن صديقا لي يقول كذا وكذا، وطلبت منه أن يدبر شيئا ما، أيَّ شيء، يخرج من بعدها صاحبنا هذا وقد آمن. وافق وقال:

-      انتظروني يوم الثلاثاء القادم، سآتيكم.
-      ماذا ستفعل؟
-      لا تشغل بالك
-      لا.. لا أدخل في رهان خاسر، يجب أن تخبرني ماذا ستفعل؟
-      سأجعله يضع يده اليسرى على فخذه الأيسر، ثم أقرأ بعض التعاويذ، وسترتفع يده غصبا عنه.
-      وماذا إذا قاوم؟
-      لن يستطيع.. ولو قاوم فستُكْسَر يده!
-      متأكد؟
-      متأكد.. ما رأيك أن تجرب؟
-      (في خوف ورهبة) لا.. لا أجرب، أنا مؤمن والحمد لله!

مع أني لا أؤمن بخرافاتهم هذه إلا أني وجدت فيه وسيلة لكي آخذ صديقنا جمعة إلى الإيمان بالغيب، وكان صاحبنا صاحب التعاويذ هذا اسمه عبد السلام، وحضر إلينا حسب الاتفاق. وعبد السلام هذا –بالمناسبة- لم يكن متدينا، ولكي نعرف مقياس التدين فأنا كنت أصلي وأصوم فحسب ومع هذا كنت متدينا بمقاييس هذا العصر!

جاء عبد السلام وجاء جمعة، وضع يده على فخذه، وقال له: إذا شعرتَ أن يدك ترتفع فلا تقاوم حتى لا تتضرر، وبينما جمعة يضع يده ويراقب ألا ترتفع فعبد السلام يقرأ تعاويذه وينظر بقوة إلى عينيه، ثم يقول له: لا تقاوم.. قد أخبرتك ألا تقاوم، لا تحاول..

في النهاية ارتفعت يده فعلا..

هل كان هذا نوع من التأثير النفسي؟ أم نوع من تسخير الجن.. لا أعلم!

المهم أني كسبت الرهان، وهتفت في جمعة: ها؟ آمنت بالملائكة والجنة والنار أم ماذا؟!

تمتم وتلعثم ولم يحر جوابا: لأ.. هو.. أكيد أنتم... لأ.. لأ، يجب أن أتكلم مع آخرين. ثم لم يؤمن!!

هكذا كان الحال مع التيار اليساري في ذلك الوقت.. ثم نترك الحديث عن الجماعات الدينية إلى اللقاء القادم إن شاء الله.

هناك تعليقان (2):

  1. ممتعه، متعك الله في الدنيا و الآخرة أستاذ محمد

    ردحذف
  2. هذا الزمن موجود فيه ما هو اسوء من ذي قبل اللهم انعم علينا بالإيمان وحبك يا الله الحمد لله على نعمه الاسلام

    ردحذف