الخميس، مارس 21، 2019

الأمل هو السر!

من المشاهد التي تبدو محيرة وتثير التساؤل مشاهد الاستسلام الجماعي..

كثيرا ما يصرخ أحدهم: لماذا لا يثور الشعب رغم كل هذا الذل والمرّ والفقر؟!

كيف يستسلم السجناء -مثلا- أمام تحكم السجان وإذلاله وتعذيبه، رغم أن عددهم أكثر من عدد سجانيهم؟

لماذا يمكن للمرء أن يسير إلى الإعدام ساكنا -أو حتى متلكئا، وراجيا باكيا- لكن لا يفكر في أن ينتزع سلاح أحد الذين يمسكون به فيقاوم ويقاتل عن نفسه القتال الأخير، طالما أن المصير واحد؟

كيف يمكن -كما صوَّرت ذلك مقاطع فيديو عديدة- أن يُنادى على أحدهم ليُذبح كما ذُبِح زميله قبل ثوان، ومع ذلك فهو يأتي بقدميه ويقدم عنقه للذبح بلا مقاومة؟

كيف كان المغولي يوقف الجماعة من أهل بغداد لينتظروه حتى يأتي بسلاح يقتلهم به، فيقفون ساكنين مستسلمين حتى يذهب فيأتي بالسلاح فيقتلهم به؟!

بداية: هذه المشاهد تكررت في كل الأمم والشعوب، ليست خاصة بشعب ولا بأمة ولا بعرق.. ويجب في البداية تثبيت هذا المعنى، وأنها ظاهرة إنسانية، لأننا ابْتُلينا ببعض المنتسبين إلى الفكر والثقافة لا هم له إلا شتم أمتنا وشعوبنا وتحقيرهم.

ثانيا: من بين عدة تفسيرات يقدمها علماء الاجتماع والباحثون أرى أن أقواهم هو تفسير: الأمل!

نعم.. الأمل!

إذا وُجِد الأمل تحول نفس الإنسان ونفس الجمهور إلى قوة عاتية، أساطير من البطولة الفردية، وأساطير من التكافل والتعاون الجماعي.. وإذا ذهب الأمل وجاء اليأس انهارت هذه الأساطير وتحطمت هذه القوى وغاضت معاني التضحية والفداء وحلَّ الاستسلام العام.

لاحظ إيريك هوفر أن اليهود الذين سيقوا إلى أفران الغاز والمذابح الجماعية دون مقاومة في ألمانيا النازية هم أنفسهم الذين قاتلوا بكل شراسة في فلسطين.. كثير منهم قُتِل قبل أن يرى أمله لكنه قاتل عليه، قاتل لأجل الأمل الذي في خياله، بينما قُتِل آخرون مستسلمين ولم يدافعوا عن الواقع الذي كانوا يمتلكونه بالفعل!

ولاحظ جوستاف لوبون وإميل دوركايم أن السلوك الجماعي في لحظات الحشد الجماهيري لا يشابه ولا يقارب مجموع سلوك الأفراد وعليه بنيا نظريتهما في سيكولوجية الجماهير وفي التفسير الاجتماعي للسلوك البشري.. ومن ذلك عُرِف أن الثورة الجماهيرية لا تُصادَم وإنما ينبغي أن تُمْتَصَّ وتُمْتَطى صهوتها، وإلا كان البديل عنفا هائلا ومستمرا ونهايات مفتوحة على كل الاحتمالات.

وبناء على هذه الملاحظات بُنِيت أعمدة في علم الاجتماع السياسي الذي مقصده الأساسي التحكم في الجماهير واستثمار طاقتها وحشدها لخدمة السلطة (باسم خدمة الوطن أو فداء للزعيم) ومنع تحويلها إلى اتجاه ضد السلطة وأساليب تفتيت الأسطورة الفردية للزعيم والبطل وكذلك أساليب تفتيت الحراك الجماهيري في لحظات الثورة والحشد.. إلخ!

لكن الذي يهمنا الآن هو مسألة الأمل!

إن البطل الذي يقود ثورة ويحرك الجماهير ويهابه الأعداء والأصدقاء على السواء، هو الذي إذا انتهى مصيره إلى السجن والذل -مثلا- استسلم لصفعات جندي حقير لم يكن يحلم أن يمسح له حذاءه، وهو الذي يمكن أن يكتب فيما بعد خطابات الاسترحام والعفو لمن كان أوشك أن يُسقط حكمه ونظامه!

وإن الشعب الذي خرج هادرا إلى الميادين وكتب ملاحم من التضحية والفداء والمواجهة مع الفارق الضخم في القوة والعدد، هو ذاته الشعب الذي كان قبل أيام يخشى أن يتكلم في المجالس الخاصة، وهو الذي إن أخمدت ثورته فسيخشى الهمس في داخل البيت لأن الحيطان لها آذان!!

إلا أن لدينا استثناء واحدا.. وهو الذي يمثل الخطر الدائم في وجه كل سلطة!.. أولئك هم هذا الصنف من البشر الذي يستطيع أن يقاوم ويقاتل مهما كانت كل الظروف حوله تدفع إلى اليأس!

هذا الصنف سماهم النبي صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء!

إنه الرجل الذي يجابه السلطان الجائر بكلمة الحق، وهو يعلم أنه سيموت..

الرجل الذي يقاوم في الظرف المستحيل، الرجل الذي يقاوم ويعرف أنه سيدفع الثمن لا محالة، وربما يدفعه دون أثر كبير في المعادلة الكبرى.. الاستشهادي الذي سيكون هو أول شهيد في عمليته الفدائية.. الانغماسي الذي يُلقي بنفسه وسط العدو رجاء أن يُنكِّل بهم ويفتح طريقا لأصحابه من بعده.. أولئك الناس الذين يخرجون عن قانون البشر هم الذين يهددون أنظمة الظلم والإجرام والاحتلال!

#عمر_أبوليلي واحد من أولئك..

الشاب الذي يمثل الجيل الرابع أو الخامس من قوم تحت الاحتلال، أجداده شهدوا الاحتلال الإنجليزي، ثم الصهيوني، ثم احتلال السلطة الفلسطينية!..

الشاب الذي لم يحمل سلاحا ولم يتدرب عليه!..

الشاب الذي رأى بعينه كيف دفع الذين سبقوه الثمن من أنفسهم وأهلهم وبيوتهم: أحمد جرار وأشرف نعالوه وعاصم البرغوثي وغيرهم!..

الشاب الذي يعرف أن جواسيس السلطة وجنود رام الله هم أخطر الناس عليه قبل جنود الاحتلال أنفسهم!..

الشاب الذي يعلم أن استشهاد الذين سبقوه واستشهاده هو لن يؤثر كثيرا في المعركة الكبرى مع الاحتلال!..

الشاب الذي يعرف كل هذا أقدم على #عملية_سلفيت ونفذها بنجاح، ثم نال الشهادة بعدها بأيام..

لمثل هذا تخشى السلطات والتقنيات الأمنية مما يسمونه "الذئب المنفرد".. لهم تسميتهم ولنا تسمية نبينا بأنه "سيد الشهداء"!

أولئك الذين يقاومون في الظروف المستحيلة، كان إيمانهم بقضيتهم أعلى من كل أمل مشهود أو منشود، وفي حالتنا نحن المسلمين، كان إيمانهم بالله وبوعد الآخرة وبالجنة أقوى من كل نتيجة مرتقبة في هذه الدنيا..

لهذا أُطلق على الذين يُقتلون في سبيل الله: شهداء.. أي أنهم شهدوا بأرواحهم على حقيقة الله واليوم الآخرة، وهو أسمى مراتب الإيمان واليقين، فالروح أغلى ما يملكه الإنسان.

أولئك الذين يقاومون في الظروف المستحيلة هم الذين يمهدون الطريق لمن بعدهم، ولذلك وصفهم النبي بالغرباء.. لأنهم غرباء بين الناس كأنهم ليسوا منهم.

وسيظل الصراع بين أولئك وبين الأنظمة السلطوية القاهرة، صراعا بين الأمل واليأس: الأمل في الله واليأس من الواقع، بين الممكن والمستحيل: الممكن الذي يطليه الأحرار والمستحيل الذي تُرسِّخه السلطة.

وهذا الدين يُجَهِّز أبناءه ليكونوا على أعلى قدر من الاستعداد والفعالية، فاليأس كفر (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)، والابتلاء على قدر الوسع (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، والجهاد ذروة سنام الإسلام، والشهيد في أعلى درجات الجنة حتى ما من أحد يتمنى أن يعود إلى الدنيا بعد دخوله الجنة سوى الشهيد، يريد أن ينال شهادة أخرى.

ثم إن هذا الدين محفوظ، تكفل الله بحفظ كتابه المجيد، فهو محفوظ في الصدور والسطور لا يملك أحد أن يغير منه حرفا، ثم قام له الرجال الأماجد فحفظوا كلام النبي وأحواله وسيرته وأيامه وغربلوا الصحيح من الضعيف في عملية لم يكن مثلها لدى أمة من الأمم، ثم إن وعد الله ووعد رسوله بالنصر والتمكين لا شك فيه..

هذا هو الأمل الذي لولاه لما كان في المسلمين مجاهد ولا شهيد.. أمل عريق راسخ من صميم الإيمان لا ينفلت عنه ولا ينفصم..

ولهذا كان الإسلام هو الخطر الكبير على الجبابرة والمتكبرين.. ولا تزال أحلامهم وآمالهم في تغيير نصوصه وتحريف معانيه وتأويل كلامه تسيطر على مجهودهم، يريدون أن يبدلوا كلام الله ليستعبدوا هذه الأمة ثم سائر الأمم.

ويأبى الله إلا أن يتم نوره..

وأولئك الشهداء قبس من هذا النور.. وشعاع من هذا الأمل!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق