بات النظام
المصري مذعورا في الأيام الأخيرة، بلغت معدلات الغضب حدًّا دفع بقطاعات واسعة من
الشعب المصري للتفاعل مع الدعوات لفعاليات ثورية "آمنة" أطلقها
المعارضون في الخارج، فضلا عن التصرفات والمبادرات الفردية التي كان أشهرها وقوف
شاب وحيدا في ميدان التحرير يحمل لافتة "ارحل يا سيسي"، ثم لم تكن إلا
دقائق معدودة حتى كان هذا الشاب يُصَوِّر نفسه بعد اعتقاله من داخل سيارة الشرطة.
تبدو الحالة
المصرية منذ لحظة انقلاب 3 يوليو 2013 أشبه بساحة من البنزين التي تنتظر الشرارة،
لكن مساحة البنزين تزداد اتساعا مع ظهور الوجه الحقيقي للنظام العسكري تدريجيا،
وما أحدثه من أزمات قاسية شملت عموم الناس في مصر حتى فرغ معسكر السيسي من داعميه
إلا رجال الدولة نفسها والجماعات الوظيفية في الصحافة والإعلام. فقد فوجئت حتى
القطاعات العلمانية بالسيطرة العسكرية التامة على الساحة السياسية وفوجئ رجال
الأعمال بالتغول الاقتصادي العسكري وفوجئ الوطنيون ببيع جزر مصرية والتخلي عمليا
عن أراضي سيناء المتاخمة لخليج العقبة، كما طُحِن الشعب المصري عموما تحت موجة
هائلة من الغلاء.
إلا أن كل هذا
الوضع القابل للاشتعال ظل مكتوما بنظام أمني حديدي لا يفكر في الرحمة ويمارس توسعا
غير مسبوق في القتل والاغتيال والخطف والتعذيب، وينشر موجة هائلة من الخوف،
استطاعت إخماد الاحتجاجات السلمية ثم العمليات المسلحة، وصارت مساحة البنزين تتسع
لكن الشرارة مكتومة لا يمكنها أن تنفجر.
في الخارج أطلق
فريق من المعارضة فكرة الفعاليات الآمنة، تعود الفكرة حسب تتبعي للسياسي الإسلامي
محمود فتحي رئيس حزب الفضيلة وأحد أعضاء تحالف دعم الشرعية، ولكن الفكرة اكتسبت
زخما كبيرا ورافعة ضخمة حين تبناها الإعلامي المعروف معتز مطر على قناة الشرق.
الفكرة البسيطة لهذه الفعاليات هي إعادة بث روح الثورة في الجماهير واستخراج صوتها
عبر أشياء لا تمثل تهديدا خطيرا لفاعليها، وهي مرحلة أولى في تفعيل الطاقات
المكتومة ومحاولة بعث الشرارة في مساحة البنزين المؤهلة للاشتعال، ثم هي قبل ذلك
وبعده تكوين لحاضنة شعبية واسعة.
تعلق الأمر في
البداية بإطلاق صافرات إنذار أو القرع على الأواني في أوقات محددة، ثم الكتابة على
الأوراق النقدية، ومن خلال تتبع خطابات محمود فتحي ومعتز مطر فإنهم يخططون
لفعاليات قادمة على نفس النمط.
في تقديري لم
يكن أحد يتوقع التفاعل الواسع مع هذه الدعوات، لكن نجاحها واتساعها أغرى الجميع
بالانخراط في الفعاليات، وفي خطوة غير متوقعة أذاع التليفزيون المصري خبرا أن
البنك المركزي أصدر قرارا بمنع تداول العملات الورقية المدون عليها عبارات نصية، وذلك
بعد انتشار الكتابة عليها ضد السيسي، وهو قرار غريب ومدهش ولا يمكن تفسيره إلا في
ظل ردة الفعل المجنونة للنظام المصري!
ذلك أن تعطيل
تداول عملات ورقية في السوق المالي له آثار بالغة الضرر على حجم السيولة الموجود
بالسوق، وعلى ارتباك هائل في التبادل النقدي اليومي، لا سيما أنه لو فرضنا امتناع
البنوك والمؤسسات الرسمية عن تداول هذه الأموال فإن توريدها من خلال ماكينات
الصرافة لن يمكن التفطن له بحال (فالماكينة لن تقرأ العبارات النصية)، ومن ثَمَّ
فستدخل هذه الأموال إلى البنوك التي تمثل شرايين التعامل النقدي.
كذلك فإن هذا القرار
وإن استهدف مواجهة الكتابة ضد النظام، فإن الواقع أن الكتابة على الأموال عادة
منتشرة في مصر، أحيانا يفعلها شاب عاشق يكتب على أمواله اسم حبيبته كنوع من إعلان
مشاعره، وكثيرا ما يفعلها صرافون لضبط العد، وأحيانا لأغراض أخرى تتعلق بحركة
الصرف والتبادل وضبط العدد ونحوه، فحجم الكتابة على الأوراق النقدية منتشر في مصر،
وهو ما يعني أن منع تداول هذه الأوراق لم يكن إلا قرارا مجنونا في لحظة غضب، وأغلب
الظن أنهم سيتراجعون عنه قريبا.
على فرض أنهم لم
يتراجعوا عنه، أتصور أن قرارا كهذا قد يكون مقدمة لتداول هذه الأموال فيما يشبه
السوق الموازية، وفي هذه الحال فإما أن تضطر السلطات لطباعة أوراق مالية أخرى مما
يزيد من التضخم المالي، أو أنه ستنكمش حصيلة الأموال التي تحصلها مما ينتج أزمة
نقدية! وساعتها فلو فكَّرت المعارضة في دعم حملة لسحب الأموال من البنوك فإنها
ستزيد من أزمة النظام.
امتد جنون
النظام إلى تهديد معتز مطر في أهله، اقتحموا البيت على والدته المسنة، واعتقلوا
عددا من إخوته مع زوجاتهم وأولادهم، دلَّ هذا أيضا على الهيستريا التي عاودت رجال
الدولة من إمكانية أن يعود الشعب مرة أخرى للشوارع:
فإن
النار بالعودين تذكو .. وإن الحرب مبدؤها الكلام
والجيل الذي
عايش الثورة ولا تزال كل الظروف تسوق إليها يتشوق لإعادتها مرة أخرى، والمعركة
دائرة حول حلم الثورة، ما بين من يتمسك به ولا يريد أن يفلته، وبين من يريد
انتزاعه ودفنه وتجاوزه كأن لم يكن. ومن تأمل في صور التفاعل الشعبي الأخير فسيلفت
نظره حضورٌ واضح للشباب في أعمار السابعة عشرة والثامنة عشرة، وأولئك شريحة لم
تشهد الثورة الأولى نفسها (2011م) لكن غُرست أحلام الثورة في أرواحهم وقلوبهم.
ومهما أُشِيد
بأصحاب الفكرة وداعميها من الخارج فإن البطولة حقا منصرفة إلى أولئك الشباب الذين
حولوا هذه الأفكار إلى واقع والدعوات إلى فعاليات، وتعرضوا لهذا القدر من
المخاطرة، وحملوا عبء أن يكون صوت التطمين الأول لبقية أصحابهم "اطمن انت مش
لوحدك"، وعهدنا بأمتنا أنها لم تعانِ أبدا من نقص في البسالة والتضحية
والفداء بل كانت المعاناة في ندرة الزعامات والقيادات التي تُحَصِّل ثمرات التضحية
وتحولها إلى مكاسب سياسية.
وفي كل الأحوال
فإن تكرار مشهد يناير مرة أخرى لن يكون مفيدا، كما أن الاكتفاء بالفعاليات الآمنة
لن يكون تهديدا حقيقيا للنظام، كلا الطرفين –النظام والمعارضة- يعرفان أن هذه
مرحلة تمهد لما يليها، وسيكون رهان النظام على نظامه الأمني وعلى عامل الوقت،
بينما تحتاج المعارضة إلى نجاحات متكررة ولو صغيرة لتعيد بعث الحاضنة الثورية مرة
أخرى، ثم ستبقى المشكلة الأكبر في القدرة على تمثيل حركة الشارع وخوض المعركة
السياسية لتحصد عمل الميدان.
ليس هذا وقت طرح
هذه الأسئلة، فالثورة وأهلها الآن كغريق يقاوم الموت ويحاول النجاة، فليس يشترط
شيئا على خشبة يجدها أو على يد تمتد إليه، مع العلم بأن هذه الخشبة قد تكون خادعة
أو أن هذه اليد قد تكون غادرة. إن حركة الشعوب ترتبط بالأمل ووجود القيادة (ولو
القيادة الرمزية في لحظات الاحتجاج)، وأي سعي لإحياء الثورة لن يتوقف الآن عند ما
لم يتوفر بعد أو ما لم يكتمل بعد. مجرد تحرك الناس يوفر فرصا عظيمة لما بعده، وهذا
هو واجب الوقت.
ليس ثمة ثورة
كانت تمتلك خطتها ومشروعها كاملة قبل أن تنطلق، بل حركة الثورات بطبيعتها هي حركة
فوق التوقعات وحافلة بالمفاجآت، وإنما تنجح الثورات إذا تهيأ لها القادة القادرون
على استثمارها وتولي زعامتها وتوجيهها بين معارك الميدان ومعارك السياسة.
بنى إبراهيم –عليه السلام- بيت الله في
واد غير ذي زرع، ثم أمره الله بالآذان، فقال: يا رب ما يبلغ صوتي؟، فقال الله:
عليك الآذان وعلينا البلاغ! وإن الكلمة الطيبة يُنميها الله حتى تصير شجرة باسقة
أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وليس من كلمة طيبة في
أمة محتلة مقهورة ككلمة الثورة والجهاد. فعلى كل مسلم وعلى كل مخلص أن يستجيب
للنداء: وأذِّن في الناس بثورة! عسى الله أن يأتي بهم من كل فج عميق.
نشر في الخليج أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق