الأربعاء، مارس 13، 2019

نصيحة الثائر إلى شعب الجزائر


لا يزال هتاف ابن باديس يبعث الحمية ويثير الفخر بعد كل هذه العقود، فقد حملت الكلمات روح صاحبها لما هتف:

شعب الجزائر مسلمٌ .. وإلى العروبة ينتسبْ
من قال: حاد عن اصله .. أو قال: مات. فقد كذبْ

وتلك هي معركة الجزائر التي لم تنته بعد، معركة الشعب العربي المسلم، مع النظام المتفرنس الذي يريد قهره وقسره على خطة خسف وحيد وموت وضلال! كما تلك هي معركة الأمة كلها، فالأمة منذ عصر الاستعمار وهي ترزح تحت الأنظمة المجرمة، ثم رحل الاستعمار وترك صنائعه وغلمانه يديرون البلاد على وفق ما كان يفعل لكن بغير أن يدفعوا تكاليفها من أموالهم وجنودهم، وبغير أن يستثير وجوده حفيظة الناس وروح المقاومة فيهم.

ولقد علم شعب الجزائر كيف التفتت إليه أنظار الأمة كلها ترقب وتشاهد، ثم كيف تطوع كل صاحب رأي أن ينصح ويناصح، ويسأل ويتابع. وتلك سيرة أمتنا فهي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. وسواء أكانت حالة الجزائر الآن حالة ثورة أم هي تباشير ثورة، فقياما بهذا الحق أسوق إلى إخواني هذه الأسطر وفاء بحق أخوة الدين.

1. المعركة في غاية الشراسة، وأي محاولة لتهوينها تضليل وتزييف وتخدير، وهذا أمر لا يحسن فيه التوسط وادعاء العقل، فأدعياء العقل والتهوين من مثل هذه الحقائق إما مخدوع مغفل أو منافق خبيث، فإن كان الأول فمصيره بين القبور والسجون والمنافي، وإن كان الثاني فمصيره في أروقة السياسة والإعلام يمارس نفاقه الخبيث.

إن الظالم الغاصب إذا اغتصب قطعة ذهب أو عقارا من طابقين لا يتركه إلا مضطرا مجبورا مقهورا، فكيف يُتَوَقَّع من احتلال أجنبي أن يفرط في بلد امتلك ثرواتها ومواردها وأجواءها وموانيها وصنع طبقة حكمها على يديه؟!

قالت العرب: لا يُجنى من الشوكِ العنبُ ولا تلد الحية إلا حيية. وأولى الناس بالشك فيهم وإساءة الظن بهم وتقديم العداوة لهم من أراق من دمائكم ملايين الشهداء يوم حكم بنفسه، ومئات الآلاف يوم حكم بصنائعه وغلمانه.

قد كان إخوانكم في مصر يجتهدون أن لا يروا المعركة كما هي، استحبوا العمى على الهدى، فروا من الحقيقة القاسية كي لا يتعرضوا لسؤال الواجب، رضوا من عدوهم بالخداع وأحبوا أن يصدقوه لئلا يُضطروا للتفكير في تبعات ما إن كان كاذبا، وسارت الأيام وهو يحفر لهم الأخدود ويُسَعِّر لهم الحطب وهم من فرط التفكير بالتمني يظنونه يُمَهِّد لهم، ظن الإسلاميون أنه يمهد لهم بعد أن قدَّم نفسه لهم كمؤمن آل فرعون، وظن خصومهم أنه يمهد لهم بعد أن قدم نفسه لهم كوطني زاهد في الحكم حريص عليهم.

فلا يخدعنكم ملمس الأفعى الناعم، ولا ينطليَّن عليكم مشهد التمثيل العاطفي، ولا تذهب بأبصاركم شعارات الوطنية، فلو كان فيهم خير لأصلحوا أنفسهم وأصلحوا من تلقاء أنفسهم قبل أن تنزلوا إلى الشوارع.

2. لا تحرر بلا تكاليف مريرة، وانظروا كيف يجتهد امرؤ غُصِبت منه قطعة ذهب أو عقار حتى يستردها، ترى كيف يجتهد شعب قد سُرق منه البلد؟!

إنه لا يُعطى السلم إلا القادر على الحرب، وقد قال كيسنجر يوما: لا تُعْطى السمكةُ الطُّعمَ بعد صيدها، وقد صرَّح في كتابه "النظام العالمي" بضرورة دعم الأنظمة المعتدلة، المعتدلة له بطبيعة الحال!

إنما هي حربُ نظامٍ عالميٍّ يستفيد من هذه الأنظمة ويجعلها خط هجومه الأول، فما من نظام في بلادنا العربية إلا وهو تحت حماية المحتل الأجنبي، وينزل المحتل بنفسه ليحميه إن ضعفت قوته واهتزت منه الأركان.

ولهذا فكل خطوة تهدئة فهي مكر وخداع، وكل خطوة تخويف هي تهديد حقيقي، ستبذل هذه الأنظمة وأسيادها كافة ما استطاعوا من آلة قتال وقتل إذا أعجزهم المكر والحيلة، ثم سيبذلون كافة ما استطاعوا من المكر والحيلة إذا أعجزهم القتل والقتال، يزاوجون بين هذا وذاك لإعادة الشعب إلى الحظيرة.

وفي المقابل فإن التعامل مع هذا الوضع هو أصعب وأشد وأعظم ما يمكن أن تبتلى به أمة من الأمم، فذلك هو ابتلاء المستضعفين والمقهورين، أن يخوضوا معركة تحرر ضد غالبهم والقاهر عليهم، ولولا أن التحرر فطرة في النفوس ما أقدم أحد على معركة كهذه أبدا، ولولا أن الإسلام عميق في النفوس لكان اختيار الكفر هو الاختيار العقلي النفعي "الحكيم"، فليس يخوض معركة كهذه إلا أصيل النفس أصيل الدين.

وهي معركة لا تُخاض بمجرد الشجاعة والجسارة، ولا ينفع فيها مجرد التضحية والبذل واسترخاص النفس والمال.. نعم، سيبذل كل هذا لا محالة كما هي سيرة معارك التحرر، لكنه لن يكون كافيا، وكم من ثورات فشلت وحروب تحرير أخمدت أو اختُطِفَت وسُرِقَت وانحرفت وجهتها، فضاع كل هذا هباء منثورا، لم يضع في ميزان الله طبعا لكنه ضاع في ميزان الواقع.

ونعم، لا بد أن نعترف أن أمتنا المسلمة برغم كل ما بذلته في القرنيْن الأخيريْن من أثمان فادحة تنتصب دليلا باهرا على أصالتها وبسالتها، فإنها لم تنجح في جني ثمرة ذلك، وأبطالنا الذين نفتخر بجهادهم لم يستطيعوا أن ينتصروا حتى الآن نصرا حقيقيا على الآلة الجبارة للاحتلال: يستوي في هذا الخطابي والبشير الإبراهيمي وابن باديس وعمر المختار وعمر مكرم ومصطفى كامل وعرابي وحسن البنا والقسام وأقوام قبلهم وأقوام بعدهم، كل هذه المشاريع لم تصل إلى غاياتها التي نشدتها، لاختلال في القوة أو لاختلال في الدهاء أو في كليهما، وهو ما يجب على الموجة المعاصرة أن تستدركه وتجتهد فيه وهي تنتج تجربتها.

ولهذا فكل الكلام عن المقاومة والجهاد والشجاعة يجب ألا يُحمل على معاني الحماسة والاندفاع والتهور، وإنما التدبير والتخطيط واصطناع الحلفاء وتسكين الأعداء يجب أن يكون حاضرا قبل العمل ومعه وبعده.

3. الثورة لحظة فارقة، الشعوب لا تثور بالطلب، ولا تزال لحظة الثورة لحظة محيرة في توقعها، ولهذا فإن الثورة لحظة وزمن.. إذا ذهبت لا تعود!

السلطة دائما أقوى من الشعب، لحظة الثورة هي الوحيدة التي تنقلب فيها المعادلة ويكون الشعب فيها أقوى من السلطة، ولهذا فإن أهم سعي السلطة يكون في تبريد هذه الهبة الشعبية وتهدئتها وتخديرها وتسكينها وإطالتها وتمديدها بحيث تنتهي دون أي تنازلات أو بتنازلات وهمية، ومن ذات هذا الباب قيل بحق "إذا أردت إماتة أمر، فشَكِّل لجنة"!

ومن هنا فلا بد للحالة الثورية أن تفرز قيادتها، بدون القيادة التي تستطيع تحويل حركة الجماهير من حالة عامة إلى حركة فعالة، تبدو الشعوب في بداية الثورة كالماء السائل الكثير يُخيف ويُرعب لكن يمكن التعامل معه بتحويل مساره وفتح البثوق في جوانبه ووبناء السدود أمامه، بينما إذا وُجِدت القيادة تحول هذا الماء لقوة خارقة مسددة تصيب هدفها فتحطمه تحطيما!

لو ظهر الزعيم بعد أو قبل لحظة الثورة فلربما قضى عمره كله يحاول استيلاد حالة ثورية ولا ينجح، والأغلب أنه يُسحق تحت أقدام السلطة أو يضطر لمهادنتها تجنبا لهذا المصير. فقط لحظة الثورة هي التي تجعل عبقريته في البناء والقيادة ذات أثر وثمر، يعطيها من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسها، أمران يلتقيان على قدر.

ومعضلة القيادة في تجاربنا معضلة عظيمة أخرى، فالقادة بطبيعتهم ندرة، والأدعياء كثرة، وفي أزمنة الاستضعاف وأحوال أمتنا هذه فالقادة هم هدف العدو: الاغتيال أو السجن أو النفي أو التشويه، أو صناعة البديل وتلميع الزائفين.

فإذا وُجِدت القيادة الصادقة فإن حمايتها أوجب الواجبات، وسيعرف القائد بذكائه وبصيرته وحسن اختياره لأهل مشورته وقوة اعتماده على الجماهير التي من خلفه كيف يستثمر هذه اللحظة الفارقة.

وليس أولى من دعم قائد ينتهز اللحظة الفارقة وحمايته، سوى الابتعاد عن قادة مزيفين مصنوعين يمتطون صهوة الحركة الشعبية ليعيدوها من جديد إلى ما قبلها، ومثلهم في هذا قادة –ربما كانوا مخلصين وصالحين في أنفسهم- لكنهم ضعفاء أو جبناء، يرتضون بأنصاف وأثلاث وأرباع الثورات، فأولئك مثل المزيفين المصنوعين في النتيجة النهائية، هؤلاء الذين ستستهولون التكاليف ويرضون بالفتات وينخدعون بالوعود ثم يعيدون التبشير بها بين الجماهير كي يخذلونهم عن الاستمرار في الثورة. حتى إذا نحجوا أو فات الوقت كانوا معهم من الهالكين.

إنه لا بد للثورة أن تصطدم بالنظام الحاكم، هذه طبيعتها، كما هي طبيعة النظام الحاكم.. فإما أن يكون هذا في زمن الثورة والفوران الشعبي، وإما أن يكون هذا بعد خمود الثورة وبرودها، فإن كانت في الأولى كانت الثورة أقرب إلى النصر، وأما الثانية فالثورة حتما مهزومة، والثوار الذين داعبت خيالهم أحلام المجد هم الذين سيكون أغلى ما يتمنونه مجرد العيش بأمان!


هناك تعليق واحد: